لا ينبغي أن يمر المؤتمر الدولي حول السلام في اليمن الذي عقد في واشنطن يوم التاسع من كانون الثاني/ يناير، مرور الكرام، فهذا المؤتمر الذي عقد بتنظيم من مؤسسة توكل كرمان، ومركز الدراسات العربية المعاصرة في جامعة جورج تاون، ومنظمة الديمقراطية في العالم العربي الآن، نجح إلى حد كبير في اختبار حقيقة الأجندة السعودية في اليمن، ويتعين عليه أن يتحول إلى مبادرة وطنية في مواجهة استحقاقات خطيرة تتربص بمستقبل اليمن.
فلقد عزز هذا المؤتمر اليقين بأن اللاعب الإقليمي الأبرز على الساحة اليمنية وهي المملكة العربية السعودية؛ مصمم على مواصلة لعبته التاريخية في هذه الساحة، عبر إنتاج الحلفاء وأعدائهم في معادلة الصراع السياسي والمجتمعي والجهوي، والتحكم بهم جميعاً بحيث لا يملك أي منهم اليقين بشأن نهاية الدور الذي يؤديه.
وتتكئ الرياض في مهمتها اليمنية على رصيد عقود من التخادم السيئ مع المشاريع الغربية التدميرية في منطقة الشرق الأوسط، والتي استهدف بعضها وجودنا وهويتنا ووحدتنا كأمة، وتعتقد أن تفردها في حسم الملف اليمني مكافأة مستحقة على حلفائها الغربيين.
كانت الناشطة الحقوقية العالمية الحائزة على جائزة نوبل، توكل كرمان، من بين من تفاءلوا بالتدخل العسكري السعودي في لحظاته الأولى، واعتقدتْ كما اعتقدنا أنّ دولة إقليمية قوية تتدخل لإنهاء الوضع الانقلابي الذي ضرب العملية السياسية والديمقراطية في مقتل، قبل أن يتضح لها ولنا جميعاً أن المملكة ليس من بين أهدافها إنقاذ اليمن بهويته الوطنية الواضحة، أي بصفته دولة موحدة ذات سيادة يحكمها نظام جمهوري ديمقراطي تعددي.
بل إن الرياض أوعزت إلى إعلامها وذبابها وعملائها اليمنيين للأسف لتدشين حملة منسقة؛ هدفها إسكات المنابر المناهضة للانقلاب الحوثي المتحالف مع صالح، والمتحررة من التمويل السعودي الإماراتي، وتحقير الشخصيات الوطنية القائدة، وهي حملة يمكن القول دون مبالغة إن السعودية والإمارات بدأتها باستهداف شخص توكل كرمان على وجه الخصوص.
ولطالما تساءل الواحد منا: لماذا تتعمد السعودية تحييد شخصية دولية بهذا الوزن، رغم أن معركتها في اليمن تقتضي مواجهة لا تقل شراسة مع مناهضي الحرب السعودية في اليمن بدوافع أيديولوجية، والذين يتواجدون بقوة في مواقع صنع القرار في العالم؟
لم يكن المرء ليحتاج إلى وقت طويل لإدراك السبب، فالسعودية لا تريد قادة وطنين يدركون مصلحة بلدهم، لذا سرعان ما أصبح قادة حكوميون بارزون في السلطة الشرعية هدفاً لحملة شيطنة شرسة ضدهم، لأنهم بدأوا بالإيعاز إلى الشعب اليمني بأن مخطط المملكة والإمارات لا يشمل حرباً تنتهي بهزيمة الانقلابيين، كما أن الأرض التي يتموضع فيها الانقلابيون ليست مسرحاً قادماً لمعركة فاصلة تُنهي الانقلاب.
ولحسن الحظ كان عددٌ من هؤلاء حاضرين في مؤتمر جورج تاون، وقد أحرقوا بالفعل السفن التي يمكن أن تعيدهم إلى اليمن عبر الرياض، وهو طريق شاق وصحراوي كما تعلمون، ويخلو من المشاعر الإنسانية النبيلة.
هؤلاء تجمعوا في واشنطن حيث لا يستطيع الشتامون مهاجمة الحكومة الأمريكية، فهاجموا من ذهب إلى هذا الملاذ الحصين لإحداث جلبة لا تحتملها الرياض التي تعتقد أنها تتصرف كشركة قابضة في المنطقة، وذلك يفسر لماذا تتعاطى مع الحكومة الشرعية لليمن بهذا القدر من الاستخفاف، بينما تذهب إلى مراضاة جماعة الحوثي أَملاً منها في تحييد إيران التي عجنت هذه الجماعة أيديولوجياً ومذهبياً، وتحكمت بعقلها وحددت أهدافها.
إن هذا المسعى السعودي البائس لا يريد أن يعترف بأن إيران إنما تعتبر محاولة إحياء الإمامة الزيدية في شمال اليمن ليس إلاَّ ذريعة مرحلية لتحويل اليمن إلى أحد أكثر الجبهات الاثني عشرية تأثيراً في التحكم بمصير المنطقة.
إن الرياض تخشى من توجه شخصيات يمنية مؤثرة من أمثال عبد العزيز جباري وصالح الجبواني وياسر اليماني وغيرهم، وشخصية عالمية نافذة كتوكل كرمان، نحو تأسيس خط وطني بامتداد ميداني مؤثر يمكن أن يقلب الطاولة على رؤوس اللاعبين السيئين، ويفرض الحق الأصيل للشعب اليمني في تقرير مصيره ويثبته على الأجندة العالمية المصلة بالصراع في اليمن، بعد أن أغرت القبضةُ السعودية الإماراتية على المشهد اليمني الوسطاءَ الغربيين والدوليين بالتعاطي مع نتاجات الحرب العبثية كمسلمات.
ويكفي أن نعرف أن بعضهم، كالبريطانيين، لم يترددوا في توظيف ما في أرشيفهم لاقتراح سيناريوهات مستفزة للكرامة الوطنية لليمنيين، حيث تتعاظم فرص الجماعات المليشياوية وفقاً لهذه السيناريوهات، كاقتراح يوصي بإعادة التحالف الذي أسقطته ملحمة السبعين يوماً بين السعودية والزمرة الإمامية الكهنوتية. واللافت أن هذا المقترح جاء بعد فترة قصيرة من الهجوم الإيراني على منشآت بحيص وبقيق النفطيتين العملاقتين في شرق السعودية؛ باسم الحوثيين.
إن نظرةً إلى البيان الصادر عن مؤتمر واشنطن لتدعو إلى التفاؤل، وإن الرخاوة التي اعتورت بعض فقراته خصوصاً ما يتعلق منها بتثبيت جماعة الحوثي كطرف يتعين أن يمن على اليمنيين بفرصة السلام؛ ربما تعود إلى أن المؤتمر عُقد بشراكة مع طرفين دوليين آخرين إلى جانب مؤسسة توكل كرمان، وحضرته شخصيات دولية مهمة كالمبعوث الأمريكي إلى اليمن تيم ليندر كينغ.
وما نتطلع إليه أن تتجه جهود القائمين على المؤتمر من الشخصيات اليمنية نحو تنقيح البيان وإعادة صياغته كإعلان مبادئ تنظم تحركا ونشاطا ونضالا؛ ينبغي أن يحتشد إليه وحوله القادة اليمنيون في داخل اليمن وفي الشتات، ضمن جبهة وطنية تاريخية، تتصل بالشارع وتعيد إليه الحياة، وتتصل بالقوة الميدانية الساخطة من حالة الاستباحة المكشوفة لمقدرات اليمنيين ولإمكانية استنهاضهم لمواجهة الترتيبات الخطيرة المتصلة بالمستقبل.
وخلاصة القول: إننا نحتاج إلى قيادة وطنية منفتحة على كل الناس والأطياف، وليس مبادرات متقطعة تتحول إلى مجرد نشاط مستفز ومحفز، وسرعان ما يطويها النسيان.
* نقلا عن عربي21