خلال سبع سنوات مضت حاول الحوثيون إنهاء أى مظاهر لاحتفاء اليمنيين بثورة 26 سبتمبر، وهى الثورة التى قام بها الشعب اليمنى عام 1962 واطاح بالحكم الإمامى الفردي، وثورة 14 أكتوبر 1963 وهى الثورة التى اندلعت ضد الاحتلال البريطانى .الأولى فى شمال اليمن والثانية فى جنوبه.
وخلال ستين عاما اعتبر اليمنيون هذه الثورات من مقدساتهم الوطنية، فهى من عمل على فك حصار العزلة عن الشعب وحققت شعار إلغاء الامتيازات بين الطبقات. وقبل ستين عاما كانت صنعاء تحكم بنظام إمامى صارم يعمل بقوانين تمييزية تحدد طبقات الشعب، وعلاقاتهم الاجتماعية بناء على ما يسمى الأصول الأسرية والانتماءات المذهبية، لذا بقى اليمن لعقود بلدا معزولا ومنسيا رغم تاريخه وثروته. حتى إن الكاتب الراحل أنيس منصور كتب كتابا فى ستينيات القرن العشرين عده معظم أهل اليمن مسيئا لهم هو كتاب ( اليمن ذلك المجهول ).
وعودة لواقع اليوم الأكثر إساءة وألما ،ويوجد صداما حقيقيا داخل مجتمع صنعاء الآن، فى ظل سيطرة ميليشيات الحوثى عليها منذ 21 سبتمبر 2014، فإن الميليشيا تريد إعادة هندسة المجتمع على تلك النظرة، وتريد إعادة اليمن مجهولا أكثر من ذى قبل. ولكن صُعق الحوثيون من ردة فعل المجتمع، حيث جاء ما يمكن أن نقول عنه انفجار بركان مشاعر عفوية احتفاء بثورة 26 سبتمبر 1962، 14 أكتوبر 1963 بعد سبع سنوات وعمل دءوب لمحو ذاكرة اليمنيين.
ورأينا أجيالا جديدة دون العشرين يرفعون شعارات ثورة 26 سبتمبر، وكلما ظهر غضب ميليشيات الحوثى وامتعاض مناصريها من ذكر 26 سبتمبر بالغ الشارع اليمنى برفع علم الجمهورية اليمنية والوحدة وتمسك بها.وذاك هو رد الفعل الطبيعى على حالة القمع الممنهجة الذى تعيشه المحافظات المسيطر عليها من قبل الحوثي، وحالة القلق العجيب فى المحافظات الأخرى التى تناوئ الحوثيين.
الناس وحدهم قرروا إيقاظ الذاكرة الجمعية بمجرد رفع علم وتعميم أناشيد وأغان عمرها عقود، لكنها صنعت وحدة شعب يحافظون عليها وأعادت لهم الأمل بدولة يتوقون إليها. وصُعقت ميليشيات الحوثى من مظاهر الاحتفاء الشعبى الذى شكل استفتاء تلقائيا على رفض قبضتها، وعلى أى توجه للتقسيم. فعمدت ميليشيا الحوثى إلى إيجاد رد فعل أرادته أكثر بهرجة وهو الرمى بورقة دينية لتزيد من تشظى المجتمع، وهى ورقة الاحتفاء بالمولد النبوى الشريف، وكأنه يمثلها فى مواجهة رفض الناس لها. حيث عمدت إلى ترويج أكبر دعاية يمكن تخيلها من ابتداع رايات خضراء فى كل مكان، أين منها إعلام معمر القذافى ومجد الكتاب الاخضر، وعممت بالقوة المفرطة على كل يمنى فى أماكن سيطرتها لبس الأخضر أو رفع خرقة خضراء، ومن لم يعمل ذلك يعد كارها للنبى الكريم.
وتمت ملاحقة الناس فى محالهم وأماكن عملهم، وبثت العيون فى كل زقاق للرفع بمن خالف الأوامر، وسموا كل من تأخر برفع الراية الخضراء ودفع الجزية الموجبة للاحتفال المنافقين، وتم علنا تقسيم المجتمع إلى صنفين من لبس الأخضر هو مع النبى ومن لم يلبس هو ضد النبي، هكذا !. وليس ضد الميليشيات.
وعممت وسائل الإعلام التابعة للحوثى بكل الأنواع والأساليب الممكنة أن الحوثى هو (القرآن الناطق)، وعدم طاعته كفر، ومن مظاهر الكفر رفع أى شعار للجمهورية وعلم الوحدة .
اندفع الحوثى نحو حملته فى حرب الشعارات وإلباسها لباسا دينيا حد الجنون المطلق. عمد إلى تناسى أن الدين المعاملة و سلوك وليس شعارا، وأن النسب والحسب أخلاق !. عمد إلى تكريس ظلام العقل فى قرن التكنولوجيا وإشعال الإضاءة الباذخة الخضراء فى كل مكان والشعب يقبع فى الظلام، وصعق اليمنيون على تكريس حالة سفه مجنونة بشوارع صنعاء، الناس تطلى اجسادها بالطلاء الأخضر وتلبس أخضر وتنفخ أوداجها بالقات الأخضر، وتدخل فى صرخة غيبوبة ،وكأننا فى فيلم هزلى عن الزومبى بآخر الزمان، وانبعاث الرجل الأخضر.
ليس هناك أكثر إساءة للنبى مما حدث ادعاء بإعلان الحب له، وليس هناك تحريض ضد كل من ينتسب لآل النبى أكثر مما يفعله هؤلاء . وظهر غلو الحركة الحوثية وتطرفها الذى تجاوز كل اساليب داعش، وجعل حكم طالبان يبدو متقدما!. وعاد اليمن فى لحظة ليكون ذلك المجهول المحاط بالعزلة والخوف، وأصبح مجرد أن يجهر المرء بانتمائه لليمن الواحد الكبير نضالا لا يخلو من مخاطرة!. هذه الموجة من الغلو التى تُكّرس التخلف وتصنع التمزق هى التحدى الأكبر أمام استعادة اليمن. نعم لم تعد المعركة مجرد استعادة مؤسسات الدولة الشرعية فى هذا البلد الكبير والعريق، بل صارت معركة حفاظ على الهوية ودفاع عن كرامة ونضال من أجل استعادة العقل والمنطق وإنهاء عزلة مخيفة تريد العودة به عقودا للوراء. وإلى ما قيل عنه فى لحظة جنون إنه اليمن ذلك المجهول !. وهو البلد المعلوم مهما يبدو واقعه صعبا الآن.
*نقلا عن الأهرام المصرية