لأني رجل مشرد، أو واحد من "أبناء الشوارع"، وأبناء الشوارع هذه جملة تم تشويه سمعتها على نحو مبالغ فيه، لقد لوثوا الجملة بطريقة مجحفة، ظلموها بحق، وفي الحقيقة هي جملة محترمة، أو على الأقل تعبير واقعي عن يوميات الشباب الذين غادروا أسرهم وعاشوا منفردين بعيدا، فما معنى كل هذا التشويه بحق جملة عادية نقصد بها أن هناك أناس يأكلون من الشارع، يغسلون ثيابهم في الشارع، وكل ما يحرك حياتهم يتم في الشارع، ولذلك هم أبناء لهذه الشوارع، وهو تعبير محترم وليس فيه أدنى شتيمة أو احتقار.
الحقيقة أن المرض حين يداهمك وأنت على هذا الحال، أي أنك من أبناء الشوارع، ستقاسي أمورا شتىَ، فمثلا حينما داهمتني الحمى، أنا الكائن الذي يعيش في غرفة منفردة بعيدة عن ضجيج العالم كله، قررت، قررت حينما داهمتني الحمى، الذهاب إلى شقة أصدقائي، وشقة أصدقائي هذه، عبارة عن قبو حقير، متسخ وتنبعث منه روائح حقيرة بالطبع، أشعر أنني بالغت في تكرير كلمة "داهمتني"، وهذا أمر مزعج ومؤرق وباعث للغثيان، ولكن لا بأس فبعض الأمراض تجعلك تهذي، وهذا أمر لا سلطان على الإنسان فيه.
المهم، ما هو المهم بربك؟!
وصلت أحمل جسدي وهو على حافة الانهيار، فالحمى مرهقة، وهي ليست حمى عادية، إنها حمم من نار تتساقط من عينيّ وأذنيّ، فما إن دخلت باب شقة أصدقائي، أقصد هذا القبو الحقير، استقبلتني رائحة مزعجة وباعثة على التبلد، ولكن بمرور نصف ساعة تكيفت مباشرة على الهواء فيها، هواء ثقيل تتنفسه ويختلط بأعماقك، وهكذا تعتاد عليه.
احتفى بي أصدقائي على نحو نبيل، حتى أنني نمت من الصباح وحتى المساء على الأرض، فأصدقائي يحبونني كثيرا، لكنهم أوغاد بطبيعة الحال، أوغاد إلى درجة لا يتخيلها أحد، فقد نمت إلى نحو الحادي عشرة منتصف الليل، وحينما كنت أرتجف من البرد، تطوع أحد الأصدقاء النبلاء، وأعطاني بطانية، بطانية تحمل في أحشائها كيلو من الترب تقريبا وأشياء أخرى، لكنني شعرت بالدفئ، وكان حتى ذلك الحين، ضوء الكهرباء يخترق مقلتاي، وأنا إلى هنا كنت أعيش برفاهية ونعيم وطمائنينة في شقة أصدقائي، إذا لم أكن مبالغا.
فما إن انطفى الضوء، غادرني الأصدقاء الأعزاء النبلاء، تركوني وحيدا، وهذا أمر محبب، إذ أن الإنسان لا يجد راحته إلا عندما يكون وحيدا، فبدأت أسمع مجنزرات من تحتي، مجنزرات تحاول أن تحملني، لا أدري إلى أين، وهذه المجنزرات، حشرات كبيرة لا أعرف فصيلتها، ولكن باستطاعة عالم أحياء أن يشّرحها على نحو صحيح، فهي لا تظهر إلا في الظلام، فمن أين آتي بالضوء الآن؟!
أنا في الحقيقة أنهض بصعوبة بالغة، فهل أتت لتحملني؟ ولكن إلى أين؟
محدثكم من وسط المجنزرات المدرعة، منذ زمن لم أعد أهذي ولا أكتب، فكان هذا اليوم، اليوم الذي لا أعلم متى سيطلع الضوء فيه، ومتى ستتركني هذه الحمى التي تصهر جسدي بلا توقف!