منذ أيام مرت الذكرى الخامسة لمحرقة تعز الشهيرة، والذين يقولون انها لم تكن محرقة هم فقط أولئك الذين يحاولون أن يبرئوا المجرمين من جرم بينٍ ارتكب على مسمع ومرأى من العالم أجمع أو ممن لا يريدون ـ لأسباب تخصهم ـ الإقرار بما قدمته تعز من تضحيات في مسار مواجهة الطغيان.
كان المعتصمون السلميون يمارسون فعالياتهم الروتينية اليومية من خطابة وقراءة قصائد شعرية حماسية وبث الأناشيد التي تمجد الثورة وتدين الطغيان، وكان أيوب طارش يصدح بصوته.
يا ســـــــماواتِ بلادي باركينا
وهبينا كل رشدٍ ودعيـــــــــــنا
نجعل الحقَّ على الأرضِ مكينا
أرضـــــــُنا نحن أضأنا وجهها
وكسونا أفقــــــــها صبحاً مبينا
وجعلـــــــــــنا في ذراها عزها
لا يرى فوق ثراها مســــــــتكينا
وكان الشباب والشابات يرددون الهتافات اليومية المعروفة، التي كانت قد ترددت في كل أرجاء البلاد حينما بدأت النيران تشتعل في المخيمات الواقعة على أطراف الساحة.
في البدء اعتقد المعتصمون أن هناك سببا عارضا أو خطأ فنيا أدى إلى اشتعال النيران ، لكن تصاعد النيران في كل المخيمات أكد أن القضية كانت معدة بإتقان من قبل جهة محترفة في القتل والإجرام وإن الهدف ليس فقط إحراق أكبر عدد ممكن من الشباب الرافضين لاستمرار سلطة القمع والفساد والطغيان والاستبداد، بل حرق الثورة كلها من خلال قتل الثوار وتحويل الساحة إلى رماد.
في البداية حاول الكثير من المعتصمين التزحزح باتجاه المناطق الأقل اشتعالا، لكن لم تبق منطقة لم تصل إليها النيران، ما اضطر الجميع مغادرة الساحة بعد أن فشلت محاولات الإطفاءالتي قام بها بعض الشباب والشابات.
كان عدد الضحايا ممن فارقوا الحياة بالعشرات وأضعافهم من المصابين بدرجات مختلفة من الحروق، لكن أكثر الضحايا كانوا من المعوقين المشاركين في الاعتصامات منذ بدايتها والذين لم يتمكنوا من الحركة كما فشل رفاقهم في إنقاذهم بعد اشتعال كامل الساحة.
في اليوم التالي ظهر عبده الجندي ليعلن أن المعتصمين قد غادروا طوعا من الساحة بعد ما اقتنعوا بعدم جدوى ما يقومون به من فعاليات وارتضوا بزعامة وشرعية الرئيس علي عبد الله صالح، . . . عبده الجندي هو نفسه الذي كان قبلها بأيام قد قال أن دماء الشهداء في ساحة التغيير هي فيمتو وإن الجثث التي تنتشر في المستشفى الميداني جيء بها من أرحب.
لم تمر سوى أيام حتى عاد شباب تعز تدريجيا مرة أخرى إلى الميدان وبلغ عددهم بعد أيام أكثر مما كان قبل المحرقة، واستأنفوا ثورتهم رغم مرارة الجرح وهول المأساة، وهكذا حتى نهاية القصة قبل أن تتحول الثورة إلى صفقة سياسية ربح منها الطغاة حصانة أبدية هي ما مكنهم من العودة للانتقام من تعز ومن كل اليمن، شمالا وجنوبا.
ما تعيشه اليوم تعز من حصار وتجويع وقصف وتدمير ما هو إلا استمرارا للانتقام من تعز ليس فقط لمساهمتها الفاعلة والرئيسية في ثورة 2011م بل ومن كل تاريخ تعز الفاعل في سفر الحركة الوطنية اليمنية، وهذا هو سر الإصرار على استبقاء تعز رهينة بأيدي تحالف المجرمين في اليمن.
لكن التاريخ يعلمنا أن الطغاة مهما تمادوا في طغيانهم مصيرهم الزوال وأن النصر في الأخير لإرادة الحق والعدل والحرية والكرامة الإنسانية وهو ما يخوض من أجله اليوم التعزيون ومثلهم كل الخيرين في شمال اليمن وجنوبه صراعهم المستميت.