عبدالله البردوني، أبو بكر سالم بلفقيه، علمان كبيران من أعلام الفن والأدب والثقافة في تاريخ اليمن المعاصر، كلاهما يمتلك رصيداً ضخماً وثروة هائلة من الإبداع الأدبي والفني. يعتبر البردوني في نظر الكثيرين أعظم شاعر يمني بعد أمرؤ القيس، أما الفنان الكبير أبو بكر سالم، فيعد ظاهرة صوتية وفنية غير متكررة في تاريخ الفن اليمني، والعربي عموماً. لكن ماذا عن الأسلوب المُتأخر الذي نهجه البردوني وأبو بكر سالم، وبشكل مخالف لبداياتهم الإبداعية الفنية والأدبية..
مابين قصائد البردوني المبكرة، وبين تلك التي كتبها في مرحلة متأخرة، ترتفع جدلية تحول اسلوب البردوني من السهل الواضح الممتع إلى الصعب الغامض المُجزأ الساخر..
وبالمثل مابين أغاني ابو بكر سالم المُبكرة، وبين تلك التي غناها في مرحلة متأخرة، يرى الغالبية أن الأغاني القديمة هي الأكثر إمتاعاً وتعبيراً ورقة..
في كتابه "عن الأسلوب المُتأخر.. موسيقى وأدب عكس التيار"، "ON LATE STYLE.. Music and Literature Against the Grain" يتساءل المفكر الفلسطيني العالمي الشهير إدوارد سعيد: "هل المرء يزداد حكمة مع العمر؟ وهل أن ثمة مؤهلات فريدة في الزاوية والشكل يكتسبها الفنانون/ الأدباء بسبب العمر، في الفترة المتأخرة من سير حياتهم..". يواصل سعيد: "تلقي فكرة شائعة من علاقة السن بالحكمة في بعض الاعمال الاخيرة تعكس نضجاً مميزاً، وروح تصالح وهناءة..".
وعن نضج الأعمال المُتأخرة لبعض الأدباء والمشاهير يؤكد سعيد أن: "مسرحيات متأخرة مثل "العاصفة" و"حكاية شتوية"، تعتبر من أنضج الاعمال المسرحية التي كتبها شكسبير حيث يعود فيها إلى نوعي القصة الغرامية والأمثولة". وعن جماليات موسيقى بيتهوفن المتأخرة يرى سعيد: "ليس صدفة أن تكون موسيقى بيتهوفن قد ألهمت سماع القرن التاسع عشر ذي العقلية الفلسفية، فأكدت أن هذه الموسيقى تحمل معنى يستحيل ترجمته إلى كلمات او حتى وصفه بالكلمات، أو تقييمه بواسطة الكلمات". بحسب سعيد فإن موسيقى بيتهوفن المتأخرة توسع الفجوة بين المعنى وبين وصفه العقلاني، بما يعني أن المعنى والوصف لموسيقى بيتهوفن المتأخرة كلاهما يقدمان اسلوباً متأخراً لا يساوم. يقول سعيد: "للإسلوب المتأخر بُعدان اثنان: التأخر في علاقته بالفرد، والتأخر بعلاقته بتحقيب الثقافة عموماً، هنا يطغي اسلوب بيتهوفن الشخصي المتاخر على تشخيص حقبة ثقافية متأخرة".
السنوات المُتأخرة من عمر المثقف والأديب والفنان ورغم ما يصاحبها من ضعف وآلام، وتدني في أداء بعض وضائف الجسم، إلا إنها كما يقول سعيد هي الجديرة بصناعة هذا غير المألوف في اسلوب الفنان والمبدع الحقيقي. "الفترة المُتأخرة من الحياة، فترة تحلل الجسد، واعتلال الصحة، أو حلول عوامل اخرى تحمل امكانية النهاية قبل الاوان حتى لمن يتقادم به العمر... سوف اركز -الكلام لـ سعيد- على كبار الفنانين، وكيف اكتسى كلامهم وفكرهم في نهاية حياتهم ، لغة جديدة، وهو ما اسميه الأسلوب المتأخر".
يرى سعيد أن المثقف والفنان الحقيقي، هو الذي كلما تقدم في السن كلما تنازل أكثر عن حقوقه لصالح الواقع، بغض النظر عن الشهرة أو المردود او نيل الاستحسان..
"إن الأسلوب المتأخر هو ما يحصل، إذ يتنازل الفن عن حقوقه لصالح الواقع".