التطورات العسكرية في اليمن تكشف عن عبث ظاهر من أطراف الحرب، لكن مع ذلك تبقى هذه التطورات دراماتيكية متغيرة ومتماوجة إلى حد كبير، وثمة علاقة قوية بين هذه التطورات والوضع الجيوسياسي في منطقتنا، حيث انعكاساتها لا تخفى على أحد. وقد بلغت هذه التطورات ذروتها بالاستهداف العسكري المزدوج لكل من الإمارات والسعودية من قبل الحوثيين أو باسمهم، والتي بلغ صداها مدى دولياً واسعاً، لكن دون ارتدادات جوهرية تطمئن ما يعرف بتحالف دعم الشرعية بأن بوسعه أن يمضي قدماً في التعاطي مع الملف اليمني دون قلق من الإزعاج الذي تسببه الصواريخ والطائرات المسيرة.
للوهلة الأولى يشير بيان ألوية العمالقة الإشكالي الصادر يوم الجمعة الماضية، بشأن إنهاء عملياتها العسكرية في محافظة مأرب وإعادة التموضع في شبوة والتوجه إلى المعسكرات التي قدمت منها، إلى أن الإمارات قررت التعامل بجدية مع الرسالة الإيرانية الحوثية الخشنة والخضوع للإملاءات الإيرانية، بعد أن تلقت ردود فعل مراوغة نسبياً من جانب واشنطن حيال الضربتين العسكريتين اللتين تعرضت لهما منشآت حيوية وعسكرية في أبو ظبي، بعضها يشهد تواجدا أمريكياً.
لكن واقع الحال وطبيعة انتشار ألوية العمالقة يضعان الموقف الإماراتي في سياقه التكتيكي أكثر من كونه تنفيذا فعليا لالتزامات اضطرارية، وهو موقف تتشاركه مع الرياض ربما. وتكتسب وجهة النظر هذه وجاهتها من أن القسم الأكبر ألوية العمالقة لا يزال متواجداً في أرض المعركة في مأرب، وهذه الألوية مستمرة في ضخ الوعود المتفائلة بشأن مواصلة القتال خارج محافظة شبوة، وصولاً إلى محافظة البيضاء المجاورة من الناحية الغربية لكل من مأرب وشبوة.
الخطوة التكتيكية الإماراتية تتعزز بطريقة إعلان انسحاب قوات العمالقة والتي عرضتها وسائل الإعلام التابعة لأبوظبي بحماسة شديدة، وقدمتها على أنها ألوية جنوبية وتتبنى الأجندة الانفصالية، على الرغم من بقاء هذه الألوية السلفية بعيدة نوعاً ما عن الاصطفاف السياسي الواضح مع المشاريع السياسية الإشكالية.
كما أن إطلاق تسمية جديدة على حرب العمالقة في مأرب، وأقصد بها "عملية إعصار الجنوب"، قد جاءت بأثر رجعي، إذ أن العملية التي سبق أن أعلن عنها المتحدث باسم تحالف دعم الشرعية العميد تركي المالكي، من مدينة عتق عاصمة محافظة شبوة، حملت اسم "عملية تحرير اليمن السعيد"، ولا أعتقد أن التحالف يعاني من انقسام حيال المعركة الراهنة وأهدافها.
إن صبغ الدور الوظيفي الصريح والنفس المناطقي الواضح على قوات العمالقة السلفية، ليعكس هذا القدر من الأجندات المتداخلة في المشهد اليمني وبالذات من جانب دولتي التحالف، إما أنه يبقي جدياً يدَ الانفصال المدعوم من الإمارات على الزناد، أو أنها مبالغة مقصودة الهدف منها إضفاء المصداقية على خطوة الانسحاب التكتيكية كما وصفها الحوثيون أنفسهم.
أي كانت دوافع الخطوة الإماراتية التي نفذتها ألوية العمالقة أو جزء منها كما تشير الوقائع، سواء عبرت عن حاجة أبو ظبي لتلبية مطالب دولية وإقليمية بالتهدئة تجاه إيران التي تدير بكفاءة استراتيجية الردع مع التحالف بقيادة السعودية خلف واجهة التابع المحلي لها وهو جماعة الحوثي المسلحة، أم أنها تريد أن تسحب الذرائع من تحت أقدام طهران وتابعها الحوثي، فإن الإمارات كما هي السعودية لا تجدان صعوبة في تغيير قواعد اللعبة، في ظل الانكفاء الواضح للشرعية، وافتقادها ميزة السيطرة الميدانية على القوات والاستقلالية لجهة الدعم العسكري، إلى جانب اتساع المجال أمام قوات وظيفية كألوية العمالقة، التي رغم تضحياتها المشكورة، إلا أنه ما من رابط موضوعي بين معاركها وبين اليمن دولة وجغرافيا ومشروعاً وطنياً، إذ أن الدافع العقائدي يحصر المعركة في إطار دحر من تسميهم "الروافض".
من الواضح أن الإمارات سوف تواصل الانغماس بمستويات متفاوتة ظاهرة أو خفية في ما تبقى من معركة التسوية النهائية للحرب التي من المتوقع أنها ستستقر على الأهداف الكاملة للتحالف، مع التزام اضطراري تجاه وحدة الدولة اليمنية وسقف مرتفع جداً في ما يخص شكل الدولة والتركيبة السلطوية المقبلة التي ستدير هذه الدولة، وذلك دونه ثمن باهظ يتعين أن يدفعه اليمنيون والتحالف على حد سواء، إذ أن ما من خيار آخر سوى إبطال مفعول القنبلة الخطيرة التي زرعتها إيران في الجغرافيا اليمنية، لكي يصل اليمن ومعه المنطقة إلى مرحلة الاستقرار.
لذلك فإن خلاصة ما يمكن أن يتوصل إليه المتابع هي أنه ليس هناك حسم حتى الآن لمصير ودور الوية العمالقة خصوصاً خارج المحافظات الجنوبية، فالسعودية لم تقل كلمتها بعد، ومن الواضح أن التصريحات التي تصدر عن القسم السعودي من قوات العمالقة تشير إلى تمسك السعودية بمواصلة المعركة ضد الحوثيين لممارسة أكبر قدر من الضغط العسكري الميداني عليهم، لكن ذلك لا يعني أن مصير المعركة مرتبط بشكل جوهري بهذه الألوية ذات الطابع الوظيفي كما أسلفت، بل بموقف التحالف وبالإمكانيات التي بوسعه أن يضعها بين أيدي قوات الجيش الوطني؛ كما وضعها بين يدي قوات العمالقة وغيرها من القوات المتخمة بالسلاح والتي لم تنخرط في المعارك إلا قليلاً.
وعليه فإن التركيز على قوات العمالقة يحيلنا إلى نظرية "ذيل الذئب"، مع بعض التحريف في هذه النظرية يقتضيه السياق والموقف. وبموجب هذه النظرية فإن الأجدر بنا أن نعيد تصويب النظرة نحو التحالف نفسه الذي يحرك ألوية العمالقة كيف يشاء ومتى يريد، ونحثه على ضرورة أن يعزز التزامه الظاهري تجاه الشرعية بإنهاء تحفظاته على الجيش الوطني، وتمكينه من الحصول على السلاح النوعي من موارد الدولة اليمنية، فهذا الجيش يتمتع بأداء عسكري قوي أفضل بكثير من أداء العمالقة الجنوبية على اهمية ما أنجزته هذه الألوية.