فى واحد من المواقف التى لا أنساها، فى صنعاء أواخر العام 2014 , أيام حكومة الكفاءات الوطنية، جاء أحد أشقاء عبدالملك الحوثى صدفة، وكنا نبحث كيفية خروج الجماعة المسلحة من المؤسسات الحكومية التى سيطرت عليها وعرقلت عملها. وفى مجرى حديث طويل حول زعامة عبدالملك الحوثى للحركة وهو الاصغر سنا سألت شقيقه وكان أكبر سنا من عبدالملك بأكثر من عقد على الأقل، لماذا لا يكون هو أو أحد الأشقاء الأكبر سنا أو شخص آخر رئيسا للحركة؟ ولن أنسى كيف بهت الرجل ومن معه ورد مكررا جملته الاستنكارية:
ــ اتق الله يا أستاذ، اتق الله يا أستاذ هذا اصطفاه الله!
تلك هى الرؤية لموقع عبدالملك الحوثى بين جماعته بل وما يرون عليه الرجل فى هذا الكون !, هو مصطفى من الخالق سبحانه وتعالى، منزه غير قابل للعزل ولا المناقشة، لا منصب محدد له ولا مسمى!., لذا فى إحدى الورطات وكنا فى صنعاء أيضا نهاية العام 2014 احتار أحد كتاب المحاضر الرسمية لجلسة نقاش طرفها الحكومة والآخر جماعة الحوثي، حيث جاء على ذكر اسم عبدالملك الحوثى وأراد توصيفا لموقعه الحزبى داخل الجماعة فقال لأصحابه فى الجلسة هل نكتب عبدالملك أنه الأمين العام لانصار الله فغضب ممثلو الحوثى وقالوا لا ليس هذا مسمى موقعه فكان السؤال الآخر طيب رئيس الحركة فردوا بالغضب ذاته ثانية ولا تلك؟ وفتح السؤال نوافذه حقا، ما هو مسمى الرجل داخل الحركة؟ والأهم ماهى تراتبية هذه الحركة؟، كيف يتم اختيار قياداتها؟ ما هو الهيكل التنظيمى لها؟.
إذا كانت حزبا سياسيا وفى بلد مثل اليمن فيه الأحزاب أكثر من الهم على القلب، فحتما لديه أدبيات وعضوية مفتوحة، وقيادة هرمية، وموقف من قضايا الساعة وتصور لشكل الدولة المنشود! ناهيك عن مؤتمرات عامة وانتخابات. وليس هناك إجابات على أسئلة كهذه ولا يستطيع المتتبع ان يعرف تفاصيل منظمة أمنية تعمل بواجهة سياسية. ولم يجرؤ أحد من انصارها على مناقشة هيكل الحركة وطريقة نشأتها، حيث جاءت مثل حزب الله مؤسسة أمنية مغلقة بواجهة سياسية محدودة. وبقيت كل تلك الأسئلة معلقة ولا تزال حتى اللحظة، ولكن الأمر الذى صعقنى ما سمعته من نقاش مثل لى حالة عجب ساعتها وقبل أن تتكشف الأمور يوما بعد آخر وأنا قادم آنذاك من مجال محكوم بقواعد القانون الدولى أن ممثلى الحوثى أرادوا بإصرار أن يكتب كلمة ( السيد ) أمام اسم عبدالملك الحوثى وحده وهى ذات دلالة فى اليمن تعزز انقسام المجتمع وتريد أن تخضعه لنظرة عنصرية وتوقظ ذاكرة من الصراع المرير عاشه اليمن ويعود إليه الآن للأسف، بينما ممثلو الجهات الرسمية يرون كتابة كلمة الأخ قبل أى اسم مهما يكن بما فى ذلك رئيس الجمهورية، وحسب القانون اليمنى الذى طبق من السبعينيات لإنهاء أى تمايز طبقى أو عنصري. حيث يكتب رسميا فى اليمن ضمن المخاطبات الرسمية للرؤساء والوزراء وغيرهم مصطلح موحد هو الاخ، (ولا علاقة لذلك بتنظيم الإخوان بالمناسبة)، بل هو توحيد للمصطلح ينهى حساسية الألقاب فى اليمن وأقرت رسميا منذ منتصف السبعينيات. ولكن ذلك غير مقبول عند ممثلى حركة الحوثي، حيث كلمة (السيد) هى أصل الاعتراف وأولى خطوات الإيمان وآخر قضايا النضال .
وحتى لا ينفرط اللقاء ، وكعادة اليمنيين فى حلول الوسط، وجد حل يومها فى كتابة المحضر بأن كل طرف يكتب نسخته ويضع المصطلح المناسب، حيث يكون كاتب المحضر الحوثى يقول على صاحبه( سيد) وكاتب المحضر الحكومى يقول عليه ( الأخ ) وكل كاتب يعود إلى قيادته بنسخته، وأثناء نقاش عابر وهو الذى جعل الأمر صاعقا عندما تكرر السؤال لممثلى الحوثى حول موقع الرجل فعلا وماذا يمثل تنظيميا؟ فكان قول ممثل الحوثى عن منصب سيده أنه ليس أمين عام أو رئيس حركة بل (سيد الجزيرة العربية وقائد المسيرة القرآنية)!. وعندما أشرنا إلى المتحدث ما دخل الجزيرة العربية بالأمر ونحن نتحدث عن موقعه بتنظيم حزبى داخل اليمن، فكان الرد بملامح كلها استهجان مرددا القول، أى يمن هذا، فالسيد القائد هو لمسيرة الكون كله. يومها أذكر أنى كنت ومعى زميل وزير سابق كان محسوبا على حركة الحوثي، قلت لا داعى لأن نكمل أى محضر أو نكتب محاضر، وعندما سأل لماذا ؟ قلت ببساطة: من كان قائدا لمسيرة القرآن ومصطفى من الله كيف سيمتثل لمحضر يكتبه بشر؟ وأنه يصعب على إقناع أشخاص بلغة أهل الأرض وهم يرون انفسهم من اهل السماء!.
تلك معضلة الحوثى التى يعانى منها اليمنيون ولا يستطيعون شرحها للعالم الحديث، فكيف لك أن تقول للعالم المحيط بك والمحكوم بقواعد قانون إنساني، ويتطلع إلى كوكب مفتوح من التكنولوجيا، والتواصل، والمساواة والانفتاح على كل التنوع الثقافى والاجتماعي، إننا أمام قلة ترى أن حكم البشر جاء منزلا لها من السماء، وإن خلاص الأمة فى العودة إلى ثأرات عمرها ألف وخمسمائة عام ولا ندرى ما علاقتنا بها، كيف تشرح للعالم مأساة لا يمكن تخيلها؟.
* نقلا عن جريدة الأهرام