شهدت المنطقة العربية تحديداً، على مدى العشر السنوات الماضية تمثلت بموجة هجرات غير مشروعة -كما يسميها الغرب- أي موجة لجوء كبيرة ومتزايدة، تتدفق كل يوم، نحو الغرب الأوروبي باعتباره الجنة الموعودة.
الشباب العربي الذي غادر وطنه مكرهاً هرباً من الحروب والظلم وموجات العنف المتفجرة في وجوههم، لديه خزينة عقود متراكمة من الأزمات والصراعات، التي لن تنتهي بهذه الموجة من العنف على هامش انهيار فكرة الدولة الوطنية العربية.
لم تكن موجات هذه الهجرات أو النزوح الكبير من الأقطار العربية بهذا الكثافة العددية، إلا مع انكسار ثورات الربيع العربي، وعسكرتها من قبل الثورات المضادة، التي تمكنت من عسكرة كل تلك الثورات السلمية المدنية وعسكرة المجتمعات، وتفجير حروباً أهلية ضارية لم تتوقف حتى اللحظة، في كل من سوريا واليمن وليبيا والعراق أيضاً.
أما تداعيات هذه العسكرة على مجتمعاتنا العربية فقد كانت كارثية، فقد دفعت هذه المجتمعات ثمن سلميتها الكثير من التضحيات، التي من هولها وضخامتها، اضطُرت أعداد كبيرة إلى النزوح واللجوء والهرب من جحيم هذه الحروب القذرة، التي أخذت لها أكثر من إطار وكان أقذرها على الإطلاق هو الحروب الطائفية التي ضربت سوريا والعراق فاليمن بشكل كبير، وخلقت الموجهة الكبرى من المهاجرين غير الشرعيين نحو أوروبا.
لكن قبل هذا كله، ما علاقة الهجرة غير الشرعية، بالغرب أساساً؟ ولماذا يتحمل الغرب مسؤولية تفاقم هذه "الهجرات غير المشروعة"، التي يراها اليوم أخطر مهدد لأمنه وهويته الأوربية المسيحية؟ وما الذي يجعلنا نحكم أن الغرب اليوم بات يعاني مأزقاً حقيقياً سياسياً وأخلاقياً لا يمكنه الإفلات منه ومن تداعياته المختلفة؟
بداية لا يمكننا إغفال الدور الكبير للغرب في سياقات الأزمة العربية الراهنة، التي يُعتبر الغرب بالنسبة إلى الأنظمة التي ثار الشباب العربي ضدها أهم داعميها وعرابها الحقيقي، على مدى عقود ما بعد الاستقلال، بمختلف توجهات تلك الأنظمة التي أبقت على علاقة متينة مع الغرب الاستعماري بشكل أو بآخر.
وعشية ثورات الربيع العربي التي أربكت الجميع، بما فيها الغرب نفسه، الذي ظل مترقباً نتائج هذه الثورات التي قذفت إلى قمة المشهد السياسي فيها التيارات التي لا يرغب الغرب بتوليها الحكم في الدول العربية عموماً، وهو ما دفع به إلى الخطة (ب) في مواجهته لتداعيات مشهد الربيع العربي، وهو ما تحقق بالفعل في دعمه للانقلابات العسكرية والطائفية التي ضربت مشهد ما بعد ثورات الربيع العربي في كل من مصر واليمن تحديداً، هذا عدا عن دعمه وصمته عن الإجرام الذي ارتُكب في حق الشعبين السوري والعراقي من قبل الجماعات الطائفية.
ومن هنا، فقد كان للغرب دور كبير في مشهد العنف الذي ضرب هذه المجتمعات العربية، فهو، أي الغرب الديمقراطي، رأى في تلك الثورات خطراً على مصالحه غير المشروعة في المنطقة العربية، باعتبار أن هذه الثورات ستعمل على تجاوز النخب السياسية الحاكمة ذات الولاء المطلق غربياً، وتستبدل بها نخباً حاكمة تعبِّر عن إرادة الجماهير الثائرة التي تبحث عن كرامتها وحقوقها واستقلال إرادتها الوطنية المستلَبة من قبل الأنظمة الحاكمة المدعومة غربياً.
ومن هنا فمشهد الهجرة غير المشروعة غربياً، هو المعادل الموضوعي للمصالح غير المشروعة للغرب في مناطق المهاجرين التي نزحوا منها، ولا يمكن حلّ هذه المعادلة إلا بمعالجة الأزمات في مناطق المهاجرين وليس بوضع حلول قانونية ولا أخلاقية في مجتمعات الهجرة وديار الغرب، فكل هذه الحلول الترقيعية التي تتخذها هذه الحكومات والتي لا شك أنها مستلهَمة من المدونة الحقوقية والإنسانية لهذه المجتمعات التي تميزت بها من غيرها من المجتمعات الأخرى.
فتغيير قوانين الهجرة واللجوء في الغرب لن يوقف بواعث وأسباب الهجرة والمهاجرين في الشرق، ما دام الشرق يدفع ضريبة سياسات الغرب ما بعد "الكولونيالي" وإدارة مصالحه غير المشروعة في الشرق، وهي مصالح يمكنها أن تكون مشروعة في حالة واحدة، ألا وهي مساعدة هذه المجتمعات على الوصول إلى مرحلة الاستقرار السياسي والانتقال الديمقراطي السلمي للسلطة في هذه المجتمعات المأزومة بأزمة الاستبداد المحمي والمدعوم غربياً.
فظاهرة الهجرة غير المشروعة لا تقلّ خطراً عن ظاهرة الإرهاب، وهما ظاهرتان توأمتان كما هما نتيجتان طبيعيتان للسياسات الغربية الداعمة للظلم والاستبداد والقهر في المجتمعات الشرقية والعربية منها تحديداً، فقد بذل الغرب جهوداً كبيرة في دعم بقاء هذه المجتمعات خارج إطار التحولات السياسية المطلوبة للخروج من دوامة الاستبداد والعنف والتخلف، هذا الدعم الغربي الذي وصل إلى درجة مباركة أي انقلاب عسكري على أي عملية ديمقراطية شهد لها العالم كله بنزاهتها، كما هو الحال بمصر وتونس تحديداً وقبلهما الجزائر 1992م وفلسطين 2006م.
أما لجوء الغرب اليوم إلى تغيير قوانين الهجرة، فأعتقد أنه سياسات غير مجدية لأنه يبحث في الحلول في كومة النتائج والتداعيات وليس في الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة، أسباب الهجرة غير المشروعة فهي الظلم والقهر الذي حل بالمجتمعات التي ثارت يوماً للبحث عن كرامتها وإنسانيتها وحقوقها المشروعة، وكل السياسات الغربية الداعمة لهذه الأنظمة بعد ذلك.
والكارثة اليوم أيضاً أن نتائج هذا العبث الحاصل، في دعم هذه الأنظمة المستبدة أنظمة الثورة المضادة، بقدر ما يعرّي الغرب ويكشف سياساته المخاتلة يعمل على ضرب المدونة الغربية لحقوق الإنسان، تلك المدونة التي ظلّ يفاخر بها الغرب سواه من المجتمعات، ليس هذا فحسب، بل تَحوَّل ملف الهجرة إلى ورقة سياسية يتعاطى بها الغرب ويتصارع بها مع محيطه، كما يحدث اليوم في أزمة اللاجئين العرب والأفغان في بيلاروسيا، حيث تحولت أزمة اللاجئين إلى ورقة سياسية تلعب بها هذه الدولة ليضغط بعضها على بعض.
كل يوم ينكشف الغرب الأوربي أكثر فأكثر، ويغدو عارياً من كل شيء، إلا من ذلك الغرب الاستعماري الخالي من كل قيم الإنسانية التي ظلّ يرفع عقيرته بها طويلاً، وإذا به ينسلخ منها اليوم أمام فشل سياساته وانكشافها بهذا الشكل الذي لم يكُن متوقَّعاً، حتى جاءت موجة الربيع العربي لتكشف ليس فقط زيف النخب المتغربة في مجتمعاتها العربية وزيف شعاراتها، وإنما أيضاً تكشف لنا زيف الغرب الإنساني الذي يقيم السياج الحديدي أمام الهاربين من أوطانهم التي دمّرَتها السياسات الغربية بدعمها للأنظمة والجماعات الطائفية، الغرب الذي يحاكم اليوم المتطوعين في السواحل اليونانية على مساندتهم للمهاجرين والناجين من موت البحار المحقَّق.
* نقلا عن trtعربي