ربما لا وجود لثقافة موسيقية على اتصال وثيق بتكوينها الجيوسياسي كما هي في أفغانستان، التي عرفت بكونها "مفترق طرق آسيا"؛ فكانت أيضاً محطة لالتقاء الألحان الآسيوية. قديماً، على طريق الحرير، مرّت منها القوافل التجارية. وبالنسبة للجيوش الغازية، كانت وما زالت، مفترق صراعات. هكذا، اتخذت الموسيقى حدوداً لغوية وإثنية، يمثّل كل منها مركزاً موسيقياً مختلفاً، تلتقي ألحانه بمؤثرات تأتيه من خارج الحدود. فالطرق التي جاءت منها أجناس موسيقية ولغوية، شكلت الثراء والتنوع الثقافي المضيء. وفي الوقت نفسه، شكلت ممرات دامية في الجذور الداكنة للنزاعات.
على أن الموسيقى الأفغانية، بتصنيفها كنوع لغوي وعرقي، لا تمس كل الحقيقة باعتبارها فقط تمثيلاً عرقياً، إنما يمكن النظر إليها بحسب الجهات، كصورة لالتقاء مؤثرات ثقافية. ففي الجنوب، تعد كابول مركزاً للموسيقى الباشتونية الكلاسيكية، التي اتصلت بمؤثرات من شمال الهند. ولعب البلاط في كابول، منذ ستينيات القرن التاسع عشر، دوراً في ذلك، إذ استضاف موسيقيين من شمال الهند، جلبوا معهم راغا شمالية. ونتج عن ذلك راغستا افغانية اعتمدت على مقاييس مقامية محلية، مطعمة بعناصر لحنية هندية. وتتسم الراغا الأفغانية بإيقاع أسرع من نظيرتها الهندية، إضافة إلى تقشفها من حيث التفاصيل، سواء بتعرجاتها أو زخارفها، كانعكاس لانخفاض مظاهر الترف في البلاط الأفغاني عمّا كان في الهند.
وربما استقر الموسيقيون الهنود، الذين استضافهم بلاط كابول، في منطقة خرابات، التي أصبحت منبع صناعة الموسيقى الكلاسيكية الباشتونية، كما كانوا مقصداً لأفغان رغبوا بتعلم موسيقى كانت تمثل ذائقة النخبة.
ويبدو أن بلاط الملوك البراكزايين، الذي ينتسب لهم آخر ملوك أفغانستان؛ أحمد ظاهر شاه، أرادوا تحرير موسيقى البلاط من هيمنة فارسية، بما تثيره من تاريخ غزو، وكذلك لتوطيد ثقافة وطنية رسمية.
غير أن الاتصال بالألحان القادمة من شمال الهند، يعود إلى فترة أقدم من ذلك، عبر تواصل تلقائي يجسده الغناء الشعبي. وهذا نوع آخر، تم الاستناد إليه، في الراغستا الأفغانية الكلاسيكية.
بعيداً عن كابول، على الحدود، ولدت أنواع موسيقية مستقلة متأثرة بجوارها. غرب أفغانستان، ظلت عاصمة خراسان، هرات، مركزاً لتراث موسيقي فارسي- أفغاني، يسمى الداري. واعتمدت شعراً فارسياً غزلياً وصوفياً، ونقلت الموسيقى الإيرانية.
لم تتوقف الاختلافات على النوع واللغة، إنما اتخذ كل مركز آلة تخصه. فبالنسبة للباشتون، يضعون الربابة في أعلى مرتبة، وتتكون من 12 إلى 15 وتراً، وتبدو شبيهة بالسارود الهندية. بينما في هرات، تعتبر الدوتار الآلة الرئيسية، وهي أصغر، ذات عنق طويل، وتتكون من ثلاثة إلى خمسة أوتار. وفي الشمال، حيث تنتشر جماعات عرقية مختلفة، مثل الطاجيك والأوزبك والتركمان وغيرها، تستخدم الدمبورا Dambura، وهي آلة أقل تعقيداً مقارنة بالربابة والدوتار. وهذا يقترن بألحانها الأكثر بساطة، إذ تتسم برتم أسرع ومزاج راقص. وهناك، أحياناً، خليط من اللغتين الطاجيكية والأوزبكية، تعرف بالشير شيكار، أي "حليب وسكر".
مع هذا، لم تمنع تلك الانفصالات الموسيقية من حدوث التقاء مستمر وتلاقح متبادل، باعتبارها مشتركاً أفغانياً. لكنها نقطة اتصال آسيوي، فمن كابول إلى هرات، تتصل الموسيقى الهندية بالإيرانية. بينما تتسلل ثقافات أخرى في الممر الآسيوي. وضمن الأعراف في أعراس كابول، قيام صبيان، يربطون شيلان على خصورهم، بتقديم رقص ياباني تقليدي. وتلتقي الأوتار ذات السلم الخماسي الياباني برداء أفغاني تقليدي للراقصين الصغار.
على صعيد آخر، عاشت الموسيقى تحولات، كانت انعكاساً لمنعطفات سياسية. تعود خطوات التحديث لمطلع الثلاثينيات، لكنها عملية اتسعت خلال حكم الملك أحمد ظاهر شاه، وبالأخص منذ خمسينيات القرن العشرين. واتجه نحو إصلاحات سياسية، وقاد عملية تحديث في التعليم والبنية التحتية.
في المقابل، شهدت الخمسينيات ظهور أب الموسيقى الحديثة الأفغانية، عبد الرحيم ساربان، الذي يعتبر أول فنان أفغاني وظف الجاز والبيل تشانسون. ولم يقتصر غناؤه على تلك الأشكال الحديثة؛ إذ قدم ألحاناً تقليدية وشعبية. برز جيل من الموسيقيين ذوي الاتجاهات الحديثة، منهم نيناواز. ودخلت الآلات الموسيقية الغربية، مثل الأكورديون والغيتار والبيانو، والوتريات، كما أن الأوركسترا الحديثة عملت برفقة آلات تقليدية، وبدا العصر رومانتيكياً إلى حد كبير، كما تفصح عنه الموسيقى.
أصبحت كابول حاضناً لمزيج يضم كثيراً من الأنواع المحلية والأجنبية. وفي الوقت الذي بلغت فيه عملية التحديث زخماً في الستينيات، بما فيه تحرير المرأة، برز معها الفنان الأفغاني الأشهر؛ أحمد ظاهر، الذي أجمع عليه الأفغان بكل أطيافهم، وامتدت شعبيته إلى باكستان وإيران وطاجيكستان وأوزبكستان. فكان تجسيداً لطموح بالتقدم والخروج من العزلة، وتعبيراً تلقائياً لدمج القوميات، في ظل شعار وطني كان الملك يقوده. فظاهر قدم ألحاناً تستند للروك والبوب، وكذلك غنى موسيقى تقليدية بعضها ينتسب لثقافات موسيقية افغانية مختلفة.
يمكن القول إن العصر الذهبي انتهى برحيل أحمد ظاهر، في عام 1979، أو مع بداية الاحتلال السوفييتي، على حد سواء. انتهت حياة ظاهر وهو في الثالثة والثلاثين من عمره بحادث سيارة، في مشهد تراجيدي اتسع على جميع المستويات. لكن كثيرا من الأفغان ما زالوا ينظرون لرحيله باعتباره اغتيالاً سياسياً. وربما كانت الموسيقى مسرحاً لتأويل السياسة بمنحاها التراجيدي.
غير أن العام نفسه، شهد مقتل نينواز الموسيقي الأفغاني البارز، بعد أن قامت حركة خلق الشيوعية بإعدامه نتيجة ضلوعه بحركة تمرد ضمن فصيل شيوعي آخر. وضعت الدماء بقعة داكنة تتسع، وانتقلت أفغانستان من مفترق طرق الموسيقى الآسيوية، إلى تقاطع للعالم في ذروة الحرب الباردة.
أعلنت الأحداث عن شتات مجتمعي أفغاني، وفي نفس الوقت موسيقي وسياسي، وبدأ العصر المظلم بهجرات جماعية للموسيقيين. استمرت صناعة الموسيقى، مع بروز نهج دعائي، وظهور تأثيرات روسية، غير أن المراكز ظلت تحتفظ بخطوطها المستقلة.
ما زال أحد أكثر الفنانين الأفغان المعروفين، فارهاد داري، ينتمي ظهوره لتلك الحقبة، لكن سلفه هو ساربان. ومنذ هجرته عام 1991، ما زال يقدم موسيقى جديدة بإدخال الالكترو ميوزك. قد تبدو الموسيقى الأفغانية ذكورية، لكنها شهدت في وقت متأخر بروز أصوات نسائية.
بلغ العصر المظلم للموسيقى ذروته بعد سيطرة حركة طالبان، التي حرمت الموسيقى وعاقبت المؤدي والمستمع، على حد سواء.
استبدلت طالبان الموسيقى بأناشيد تتحدث عن الجهاد وتطبيق الشريعة، مستندة لألحان باشتونية خالية من الموسيقى. وضمن هذا الاتجاه، حرمت المراكز الموسيقية من التعبير الناعم عن اختلافها الثقافي. واقتصر الإنتاج الموسيقي على الموجودين في الخارج، بالاعتماد على بوب أفغاني حديث. إلا أن صناعة الموسيقى فقدت اتصالها بالداخل، ولم تعد تعبر في تطورها عن ترابط عضوي بتحول مجتمعي أو ثقافي في أفغانستان.
صحيح أن فترة الاحتلال الأميركي شهدت عودة للموسيقى، وأصبح بإمكان الفتيات والفتيان تعلمها. مع هذا، لم تستعد كابول زخمها كعاصمة لصناعة الموسيقى الأفغانية. ولم تكن عشرين عاماً قادرة على رتق تلك القطيعة. فكان الخراب يحمل معه مشهداً تراجيدياً عاصفاً، وغلياناً خفياً للاحتلال. وما عرف عنه الشعر الباشتوني، فإن كثيراً من مواضيعه مجدت البطولة والكفاح ضد المحتلين.
لكن طالبان عادت بأناشيدها التي تدعو إلى الجهاد وتطبيق الشريعة ومحاربة الإلحاد. وما زالت أفغانستان تقف كمفترق طرق، لأبعاد جيوسياسية، وكذلك لأشكال موسيقية ممكنة، بمزيج من الإثنيات واللغات، بينما تتخفى محفزات للشقاق حول تلك المراكز الموسيقية.
*نقلا عن العربي الجديد