قبل 22 مايو 1990م كانت هناك أصوات عقلانية داعية إلى وحدة متدرجة ، لكن تلك العقلانية والواقعية لم يأبه لها أحد ، فلقد كان الجنون هو الغالب والعاطفة هي المحرك والمحفز للقفز ناحية المجهول .
قبل إندلاع حرب صيف 1994م تكرر الجنون وزادت الشطحات ، فبرغم بروز أصواتًا محذرة من الإنجرار لحرب مفتوحة لست جاهزاً لها ، إلَّا أن هذه العقلانية لم تعثر لها على أذن صاغية أو ذهنية مدركة لفداحة الكارثة المنتظرة ، فكان الإجتياح ، وكان الفرار الكبير ، وكانت الوحدة الوطنية المتضرر الأول والأخير .
للأسف التاريخ يعيد ذاته الآن ، وگأنك يا بو زيد لا سرت ولا جيت ، فالجنون الذي هرول بنا لوحدة سياسية متسرعة وغير مأمونة العواقب ، ومن ثم وبطريقة ساذجة ومتهورة دفع بنا لحرب غير متكافئة ومهلكة ؛ هو ذاته الجنون المشاهد الآن ، بل وأكثر ضراوة وفداحة ..
وتزيد المأساة حين ندرك ونعلم أن من قاد الجنوب والجنوبيين إلى الكارثة تلو الكارثة هم ذاتهم الذين ذهبوا للوحدة بكل عاطفة وحماسة ومن ثم هربوا في العام الرابع .
لا شيء تبدل غير الوجوه والأصوات والأسماء والقيادات ، عدا ذلك ، فالجنون هو الجنون ، والخطبة هي الخطبة ، والحماسة هي الحماسة ، والوعود هي الوعود .
وإذا كان هنالك من جامع بين الأمس واليوم فهو أن الشعارات الصاخبة الغاضبة الآن هي ذاتها الرافضة للمنطق والعقل ، فإين ذهبت فلا تجد غير استماتة مهدرة في نواحي ذاتية ومزاجية وفئوية وماضوية ، وعلى حساب ما هو عقلاني وجمعي ووطني ومستقبلي .
إنَّه الجنون الذي أضاعنا ماضيًا وحاضرًا ، وهو ذاته الذي يتفنن الآن في إشباعنا خُطب وشعارات وتظاهرات ومغامرات ، وحتمًا سيقودنا إلى كارثة تلو الأخرى .
وأعجب ما في المسألة هو أن الجنوبيين لم يتعظوا من جُلِّ تجاربهم الماضية ، فعلى فظاعة وسوءة ما حدث لهم خلال العقود المنصرمة مازالوا أسرى شعارات ومغامرات حقبة تاريخية عفى عن الزمن .
وما يميز عالم اليوم هو زوال الخطاب الثوري الراديكالي المثالي والذي تم استبداله بخطاب واقعي نفعي يلامس حاجة المجتمعات ويعالج مشكلاتها وإزماتها الحياتية .
في واقعنا المشاهد هناك إستجرار لحقبة الستينات والسبعينات وإلتي صارت من ثوابت الجنوبيين ، فكلما زادت الخطابات الثورجية جموحًا وتضليلًا تاه العقل ، وتوارى الصدق ، واستبدت الشعارات والخُطب البلهاء المجنونة .
سأقول لكم ومن النهاية : لم يعد الجنوب بذاك البريق وتلك الغاية النبيلة والعادلة ، فكل شيء تبدل وتغير ، واقع نعيشه ويشبه قصة الكذب حين قدر له خداع الصدق كيما يستحمان معًا في النهر ، فانطلت الكذبة عليه وخلع ملابسه وراح يتمتع بالمياه الدافئة .
انتهز الكذب الفرصة ولبس ثوب الصدق وانطلق يروم دولة عادلة ، تاركًا الصدق عاريًا خجلًا من عيون السابلة . لا أعلم متى حدث بالضبط ، أهو في عهد الرئيس قحطان أم سالمين أم ناصر أم البيض ؟ .
المهم أنه ومن وقتئذ والكذب يتصدر حياتنا ، يقتلنا غضبه ، يستهوينا جنونه ، يُغرينا جموحه ، كما ومن تلك اللحظة المشؤومة التي اختفى بها الصِّدق وبرز الكذب ونحن على ذات المنوال الخادع والمُضلِّل ؟؟..