في الصف الأول الثانوي كنتُ على موعد مع دورة تدريبية في المجال الإعلامي والسياسي في مدينة إب مع زميل آخر نمثل سويا كل المديرية في الدورة التي حضرها وشارك فيها نظراء آخرين من الطلاب بنفس أعمارنا من كل مديريات المحافظة.
قضيتُ في تلك الدورة ثلاثة أيام متواصلة، ولا أستطيع هنا أن أعبر عن مدى الإستفادة التي استفدتها من تلك الدورة التي فتحت ذهني للعمل الإعلامي والسياسي بوقت مبكر، وأكسبتني العديد من المهارات، وفتحت الأفق أمامي واسعا في هذا المجال.
كان أحد الأشخاص الذين تلقيتُ على يدهم المبادئ الأولى للعمل الإعلامي والسياسي الأستاذ القدير عبدالفتاح البتول الذي ألقى محاضرة لثلاث ساعات عن هذا الأمر، ثم أعقبها بفتح النقاش لجميع الحاضرين.
حضر البتول بعد صلاة العشاء مرتديا ثوبا أبيضا، وتكسو وجهه لحية سوداء، مرتديا نظارته، وعليه علامات الوقار والإتزان والهدوء، وبدأ بالحديث متطرقا لموضوع الدورة، ساردا العديد من الأمثلة في مجال الإعلام والسياسة، ومقدما الكثير من النصائح والأفكار.
لا أستطيع إنكار مدى إعجابي وانبهاري حينها بحديثه المرتب، وأسلوب طرحه البديع في إيصال الفكرة، والغوص في كل تفاصيلها، وتبديد أي أسئلة يمكن أن تظهر للمستمع خلال حديثه، بعيدا عن التعصب لطرف ما، سواء كان حزبا أم فردا أو جماعة.
غادر الرجل المكان وفي داخلي ألف سؤال عن من يكون، وماذا يعمل، وما الذي فعله ليكتسب تلك الغزارة من المعرفة والوقار والاتزان، وما استطلعت معرفته كان اسمه فقط خلال تعريفه بنفسه في بداية الدورة.
ظل اسمه يتردد في ذهني، وتمنيتُ أنا الشاب القادم من الريف أن أحظى بالمكوث معه فترة أطول، فقد وجدت في حديثه وطرحه ما لامس الشغف لدي، وحرك كوامن الطموح، خاصة أن تلك الفترة كانت تمثل ذروة العمل والإستقطاب السياسي في مختلف مدن اليمن.
بعد تلك الدورة بسنوات وتقريبا في العام 2003م، ألتحقت بالعمل الصحفي كمحرر في صحيفة الصحوة والصحوة نت، وحينها بدأت التعرف على الأسماء الصحفية المشهورة، وأتذكر أني ناقشت الزميل نبيل الصوفي حينما كان رئيسا لتحرير الصحوة عن انتماء كثير من الشخصيات الصحفية جغرافيا لمدينة تعز، ورد عليا وقتها أن إب قدمت أيضا شخصيات صحفية مرموقة من ضمنها عبدالفتاح البتول وحميد شحرة - رحمهم الله – وشخصيات صحفية أخرى.
تابعتُ حينها الأستاذ عبدالفتاح البتول من خلال كتاباته في الصحف والمجلات اليمنية، وكان حينها غزير الكتابة عن مجمل القضايا والتطورات في اليمن.
لكن شهرته الأوسع كانت في العام 2007م من خلال كتابه "خيوط الظلام" الذي تطرق فيه لحقبة الحكم الزيدي الإمامي في اليمن، وقدم فيه إضافة نوعية للمكتبة اليمنية توثق وتؤرخ لقضية تعد واحدة من القضايا الجدلية الشائكة في اليمن، واكتسب الكتاب أهميته مع التمرد الحوثي المستمر في محافظة صعدة، وكان الكتاب برمته بمثابة التحذير الأول من ذلك التمرد، ومخاطره التي تحدق باليمن واليمنيين.
حين انتقلت للعمل كمدير تحرير لصحيفة الناس في العام 2008م كان البتول أحد الكتاب الأسبوعيين الثابتين في الصحيفة، وكنا كل جمعة بانتظار مقاله الأسبوعي الذي يرسله للصحيفة بخط يديه عبر الفاكس، وكان لزاما العودة له كل مرة لتوضيح العبارات التي كانت تصل غير واضحة بسبب الطباعة في الفاكس.
كتب الأستاذ البتول للناس العديد من المقالات حول مختلف القضايا، والتي إذا جرى تجميعها فبالإمكان الحصول على كتاب مستقل، يوثق لأحداث متتالية في تلك الحقبة.
مما أتذكره أن الأستاذ البتول بدأ يرسل مقاله الأسبوعي يوم السبت بدلا عن الجمعة، وكان السبت يمثل ذروة العمل في الصحفية، التي كان يجري إخراج عددها مساء كل سبت، ولا نتمكن من تجهيز المقال بشل أفضل إذا وصل السبت قياسا بإرساله يوم الجمعة حيث تكون الفرصة كافية لطباعته وتجهيزه.
كنتُ لا أزال أنظر للبتول بعين الأستاذ، وبنفس تلك النظرة عند حضور الدورة، وكان هذا كافيا للشعور بالحرج عندما أطلب من الأستاذ أن يعود لإرسال مقاله الجمعة كما كان الأمر بالبداية وليس السبت، ولم أجد رسالة تعبر عن ذلك سوى إرسال عبارة "قد كان طبعك حلا فليش غيرته"، إلى هاتفه الجوال، وبادر فور استلامها للاستفسار مني عن مغزى الرسالة، وأخبرته عن الأمر، وفعلا عاد لإرسال مقاله الأسبوعي كل جمعة.
استعدتُ كل هذه المواقف اليوم مع إعلان وفاة الأستاذ عبدالفتاح البتول، ونزل الخبر عليا وعلى كل من يعرفه كالصاعقة، فقد رحل واليمن تعيش في غربة، وألتفت عليها خيوط الظلام من جديد، وتحقق ما كان يحذر منه، وبرحيله يخسر اليمن شخصية فذة، أسهت بكل ما تملك في خدمة الجيل المعاصر، وأجيال المستقبل.
رحمك الله أستاذنا عبدالفتاح البتول، ونسأل الله أن يتولاك بالرحمة والمغفرة، وأن يسكنك فسيح الجنان، وأن يلهم أهلك وذويك الصبر والسلوان.
ستبكيك إب بتلالها وأوديتها وجبالها، بل تنعيك اليمن اليوم بكل أرجائها، وهي ترى خيوط الظلام تحل عليها، فقد كنت أستاذا ومعلما ومثقفا ومؤرخا وكاتبا بل وإنسانا في المقام الأول، ويكفيك كتاب "خيوط الظلام" كمصنف تاريخي سيظل مرجعا لكل قارئ في اليمن وخارجه.