ما أن علّقت المعارضة السورية مشاركتها في مفاوضات جنيف حتى سرّع النظام السوري وحلفاؤه الروس والإيرانيون وتيرة ماكينة القتل اليوميّة الجبّارة مستهدفين كل مظاهر الحياة البشريّة السوريّة بدءاً من الأسواق (كما فعلوا في مجزرة سوق إدلب)، والمباني السكنية، وليس انتهاء بالمدارس والمساجد المشافي والمستوصفات (كما فعلوا في الأيام الماضية في حلب).
وشكّل استهداف مشفى «القدس» للأطفال يوم الأربعاء الماضي والذي قتل فيه آخر طبيب أطفال في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في حلب إضافة إلى طبيب أسنان وثلاث ممرضات و22 مدنيا صدمة جديدة للسوريين الذين اعتقدوا أن لا شيء بعد الآن يمكن أن يصدمهم بعد مجازر لا تعدّ ولا تحصى.
خلال سنوات النزاع السوريّ عُرضت عشرات الآلاف من الأفلام التي وثّقت أشكال الوحشية والعنف، وأكثر من 50 ألف صورة فضحت ما لا يطاق من أشكال التعذيب والتجويع والتشويه، وبثّت الشرائط المسرّبة للإذلال والتحقير وتحطيم إنسانية الإنسان، وتم تداول القصص اليوميّة عن آلام سكان المدن المحطّمة والمجوّعة والمفرغة من سكانها، وفوق كل ذلك أشكال الإذلال الطائفي وامّحاء آخر أطياف السيادة الوطنية أمام استخدام النظام في حربه ضد شعبه عشرات آلاف المسلّحين والمرتزقة بمن فيهم قوات من كوريا وباكستان وإيران والعراق ولبنان، وهو الأمر الذي فعله أيضا تنظيم «الدولة الإسلامية» الطامح لخلافة فوق أجساد السوريين، وكذلك فعلته ما يسمى «وحدات الحماية الشعبية» الكردية التي استقبلت متطوعين من جنسيات شتى.
الصدمة الثانية التي حصلت أيضا كانت في مدينة عفرين في الريف الحلبيّ والتي تسيطر عليها قوات حزب «الاتحاد الديمقراطي» الكرديّ، الذراع العسكريّة لحزب العمال الكردستاني التركيّ في سوريا، والحليف الثلاثيّ للنظام ولروسيا وأمريكا، الذين يتناوبون، للمفارقة، على رعايته وتسليحه والدفاع عنه، والذي قام بعرض عشرات الجثث لمقاتلين من «الجيش السوري الحرّ» من القرى المجاورة لعفرين في صورة زادت، بسرعة قياسية، الأحقاد الأهلية، وجذّرت التصدّع الكبير بين العرب والكرد، والمعارضة السورية والحزب الكرديّ الذي يطالب بمكان له معها في جنيف للتفاوض مع النظام!
المقصود من كل ذلك طبعاً هو إعادة المعارضة السورية صاغرة إلى كرسي التفاوض، لكنّه يوضّح أيضاً المآل الذي كان وما زال النظام يقترحه للحلّ البدئي والنهائيّ للمسألة السورية: إخضاع الشعب الذي يزعم تمثيله وتدمير أي معارضة له بالنار والحديد والتقتيل والتجويع والإذلال الذي يتجاوز الحدود التي يتخيّلها العقل البشري.
وأنّى له ألا يفعل ذلك وهو قد علم يقيناً أنّ ما يسمى «المجتمع الدولي»، قد انتهى، برعاية الولايات المتحدة نفسها، ونفاق أوروبا، وعدوانيّة روسيا وإيران، إلى تثبيت شرعيّة النظام وإعطائه، فوق ذلك، رخصة مستمرة بالقتل، لتثبيت «حل سياسيّ» يعيد تدوير النظام ويثبت أركانه والتسعيرة هي دستور «جديد»، و»انتخابات» تسيطر عليها، بالضرورة، «الدولة العميقة» الشرسة للأسد وشركائه، في صفقة صفيقة تستبعد نصف الشعب السوري المهجر والنازح، ولن ينسى «المجتمع الدولي» خلالها طبعا أن يأخذ الصور التذكارية المناسبة، كما فعلت مذيعة قناة «الميادين» الشقراء حين التقطت صورة «سيلفي» مع جثث «التكفيريين»، أو كما فعل «الاتحاد الديمقراطي» برصف القتلى على شاحنة طويلة.
صورة «السيلفي» الدولية، هذه المرة، ستكون مع نصف مليون قتيل سوري.