حزين للغاية ، فبدلًا من أن يكون نقاشنا وجدلنا واختلافنا منصبًا في ماهية الحالة الراهنة وسبل الخروج منها إلى المستقبل ؛ انشغلنا كثيرًا في استجرار الماضي البعيد أو القريب ودونما اعتبار بكون الحاضر المتأزم والمعقد ما هو الَّا نتيجة لتشبثنا بأحداث وتواريخ ماضوية يُعاد استنساخها وبشكل عبثي ومفزع.
ويزيد حزني اكثر حين اقرأ كتابات أصحابها يحملون شهادة دكتوراة جامعة ، أو أنهم محسوبون على فئة النخب السياسية أو الثقافية ؛ فهاتين الفئتين يُعتد عليهما تحرير الإنسان في اليمن من ربقة تبعيته وعصبيته للجغرافيا أو المذهب أو الطائفة أو القبيلة.
فهذه الولاءات الضيقة هي في نهاية المطاف أدنى من الوطن والمواطنة ، واقل من الدولة ونظامها وبنيويتها ، بل إن هذه الولاءات لا تليق مطلقًا بنخب ناشدة الدولة المدنية ومفاهيمها العصرية الدالة عن وجودنا في سياق الحضارة الإنسانية.
أسأل هنا : ايهما أجدى الان ؟ الحديث عن اليمن الذي نعيش فيه ويتوجب منا فعل الكثير ؛ كيما تنتهي الحرب ويحل السلام ؟ أم عن اليمن الذي عاش فيه أجدادنا ؟ أم اليمن الذي مزَّقته الحروب العبثية والثأرات الداخلية إلى دويلات وسلطنات ومشيخات وقبائل ومناطق وكانتونات متناثرة ومتناحرة طوال اغلب حقب التاريخ ؟؟؟.
دعونا نتحدث وبصدق وشفافية عن ماهية الأفكار العبثية الصادعة لرؤوسنا وتعايشنا ؟ فجُّل نقاشنا وخلافنا محتدمًا في رغبات ونزوات ، وفي كوامن نفسية دفينة ؛ أكثر من أن يكون اختلافًا يرتقي لمصاف الأفكار والرؤى والتطلعات الجمعية المُعوَّل منها اخراج اليمن واليمنيين من وضعيتهم البائسة إلى وضعية افضل.
وما يُحيرني أكثر أن أغلب هؤلاء منجذوبون لتجربة دولة الإمارات العربية المتحدة التي هي نتاج عملية توحد طوعية ، وتحملت عبئها الأكبر إمارة " أبوظبي " ؛ لكنهم ومن حيث لا يدرون، يعملون على تمزيق الممزق وبدعوى لا يستقيم مطلقا مع العقل أو المنطق أو المصلحة.
شغلونا وقتًا في الحديث عن الجنوب العربي اعتقادًا منهم بأنهم يخدمون الجنوب ومجتمعه ، وهم بفعلهم هذا إنما يمزقون الجنوب إلى جغرافيات صغيرة لا معنى لها أو قيمة في عالم اليوم.
غفل دعاة الجنوب العربي حقيقة هذا الكيان الذي خلقه ورعاه الاستعمار البريطاني في هزيع الخمسينات ، فلم يدم غير بضعة أعوام ، إذ كان الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م قد أقيم في الأساس على أنقاض فسيفساء من الكيانات الصغيرة المجزئة لجغرافية الجنوب إلى 23 سلطنة وإمارة ومشيخة.
في تناولات سابقة ؛ كان بعض هؤلاء قد أخذته حمية العصبية للجنوب العربي ، فراح قادحًا فينا ، ودونما يذكر ولو معلومة مفيدة ، أو يدحض حقيقة إن حضرموت والمهرة وسلطنة الواحدي في شبوة لم تكن يومًا ضمن هذا الاتحاد المزعوم.
كما وغفل هؤلاء أن الهوية اليمنية ، هي واحدة مهما اختلفنا حول ما هية الهوية السياسية للدول أو الأنظمة التي حكمت اليمن قديمًا أو حديثًا .
فالواقع الذي لا يستطيع نكرانه أحدًا اننا ننتمي الى هوية حضارية وثقافية ومجتمعية واحدة ، أما هوية الدولة الوطنية والسياسية فهناك ثمة تمايز وفارق ، ففي التاريخ الوسيط كانت تحكم اليمن دويلات صغيرة وصلت في بعض الفترات الى أربع دول أو ثلاث في آن واحد ، بل وعاش مجتمع الجنوب ذاته في ظل هويات سياسية فاقت العشرين مسمى سياسي ..
وبما أن البعض لا يفهم أو يستوعب أو يفرق بين الهويتين السياسية والثقافية ، فإننا هنا سنحاول تقريب المسألة ، لعل وعسى يتحرر من جهله للمشكلة المستفحلة في أذهان الكثير.
فمثلًا " الولايات المتحدة الأمريكية ،ثقافيًا وحضاريًا يصعب فصلها عن مُستعمِرتها السابقة انكلترا ، فبرغم هذه الوحدة الحضارية والثقافية والاجتماعية التي مردها اللغة والدين والعرق والعادات والتقاليد والتاريخ وغيرها من مكونات الهوية ؛ كلاهما دولتان مستقلتان ولهما سيادتهما السياسية ، كما ولهما مصالحهما وتطلعاتهما.
والأمر لا يقتصر على امريكا وبريطانيا ، وانما يشمل دولًا كاثرة تتشاطر مجتمعاتها سياسيًا هوية الدولة الواحدة ، ولا يعيب شعوبها تعدد هوياتها الثقافية والدينية والعرقية.
والعكس صحيح فهناك مجتمعات متناثرة في أكثر من مساحة جغرافية وأكثر من هوية سياسية ، ولعل الحالة العربية انموذجًا يؤكد تشارك مجتمعاتنا العربية الهوية الثقافية والحضارية الواحدة رغم انتمائها لهويات سياسية وسيادية مختلفة.
نعم ، تعبنا من عبث إهدار تفكيرنا وطاقتنا في جدل بيزنطي لا يضيف لنا أو للعالم بفائدة ، وعلى هذا الأساس ينبغي تصويب المسألة ؛ كيما لا نجد أنفسنا في غمار صراعات وتناحرات بلا منتهى أو غاية عادلة.
وما لم تستعيد النخب دورها وريادتها في إزالة تلك الغشاوة التي أصابت مجتمعنا ؛ فإن عمى العصبية لثلاثية ابن خلدون : " المكان ، الدين ، القبيلة " لن تزيد مجتمعنا المنهك والممزق إلَّا المزيد من الازمات والتناحرات البينية.
فهذه الازمات والصراعات المأساوية المشاهدة الآن لم تكن محض صدفة أو اعتباط ،وإنما بواعثها سياسية وتاريخية ، فهي نتاج تشوهات وضغائن وخلافات وأمراض أصابت كيان الدولة الوطنية ،وعطَّلت فاعلية دورها كحامية وراعية لجميع مواطنيها ودون استثناء.
وعليه يستلزم من النخب المستنيرة تصحيح بوصلة الحالة اليمنية الراهنة ، فمهما كان حجم التحديات الماثلة ينبغي تسمية الازمات والمشكلات باسمها ، فلا يجوز الصمت إزاء هذه التشوهات الخرقاء الحاصلة في أذهان جيل كامل من الناشئة.
فمهما كانت الخلافات أو التطلعات ، ينبغي أن نفرق بين انتمائنا للدولة وهويتها السياسية وبين انتمائنا لليمن بما يعني من هوية ثقافية وحضارية جامعة ، ومن المعيب للغاية أن نختلف حول حضارة سبأ وقتبان وحضرموت أو لغة حمير أو شاعرية الفضول والقمندان والمحضار والبردوني والمقالح أو غناء بلفقيه وايوب وفيصل والمرشدي وووالخ.
فأيًا كان حالنا ، فيجب ألَّا نسقط في وحل العصبية والكراهية ، فكلاهما قد يمنحان الانسان طاقة قوية ، لكنهما الأثنان مُحفِّزان بطاقة سلبية مدمرة لا تؤسس لوطن أو تعايش انساني أو دولة قوية متحضرة.
*نقلا عن صفحة الكاتب في فيسبوك.