"في المفهوم الإسلامي تشتمل النفس البشرية على نوازع الخير والشر معا، وكلاهما جزء أصيل من تكوينها"... هذه كلمات استعرتها من مقالة "إله الحرية" للدكتور محمد الشنقيطي .. والتي استلهمتني بأن أغوص في أعماق فهم النفس، مختصرا كلامه على أن النفس تحتوي على كفتي ميزان إحداهما خير والآخرى شر. والنفس على طبيعتها يكون ميزان الخير راجحاً فيها، إلا أن الأحداث المحيطة قد تؤثر بها سلبا إذا لم يكن هناك ضوابط، وهذا ماذكره الحبيب عليه أفضل الصلاة والسلام في قوله : "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" - وما مقاصد الشريعة جاءت إلا لتكون دواء للنفس لتقويمها اذا إنحرفت على غير عادتها.
واستطرد د. الشنقيطي قائلا :"فهي كائن مركَّب لا يصلح اختزاله في بُعدٍ واحد. كما نجد في الإسلام ربطا وثيقا بين وظيفتيْ الإنسان الدنيوية والأخروية"... إنتهى كلامه.
فالنفس تزيد إيمانا وتزيد طغيانا فينعكس ذلك على تصرفات الذات التي تمثل مثلث(الروح والبدن والنفس). النفس هي الشعور العميق في الإنسان مثلها مثل الحكومة العميقة في الدولة التي تعمل على تحريك دوافع الشر والخير، لهذا عني القرآن بالنفس مخاطبا لها لكونها المحرك الأصيل للإنسان، فارتباطها بالقلب وثيقا، مؤكدا ذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في قوله : " أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ".
وكذلك أن النفوس مخازن لأسرار الله التي جعلنا بها نستخلف الأرض، مؤكدا بأنها آية من آياته، حيث قال :"وفي أنفسكم أفلا تبصرون"الذاريات، الآية 21،
ونستنتج هنا أن إمتلاك القرار ليس من خصائص النفس، كما جاء في قوله : "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا" - ويتبين لنا أن النفس في صراع مستمر وتناقضات مع الذات البشرية حتى تستوي، مع أنها في الأساس تلقت نواميس الخالق عند بدأ الخليقة، بعد أن كانت في خضم فوضى عارمة " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ" ... البقرة الآية 30.
وقد اختلف العلماء على ماهية النفس، فمنهم من ذهب على أنها هي الروح التي تجعل الذات البشرية غير جامدة وحيوية، نزولا عند قوله سبحانه وتعالى : "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي"، ومنهم من ذهب على أن النفس هي ذلك الجزء المرتبط بالإنسان يفارقه عند النوم ثم يعود إليه، وهي أحد زوايا المثلث التي تشكل الذات البشرية، الروح والبدن والنفس. قد تكون هذه إحدى الفلسفات القاصرة للبشر، ولكن هي أحد أعظم أسرار الخالق جل في علاه التي ميزت الإنسان عن سائر الخلق المرئي على وجه البسيطة.
ولا شك أن من أطلق العنان للنفس دون ترويضها قد يسلك مسالك الهلاك، والعكس إذا ارتوت من منابع آيات الله التي يلين لها الجبال - فالنفس كما ذكرنا سلفا تحتوي على كفتي ميزان الخير والشر، فيتأرجح بين الحق تارة والباطل تارة آخرى. فَذِكر الله وكثرة قراءة القرآن هي أحد أهم النوابع التي تغذي النفس لتجعلها تستوي كما ينبغي أن تستوي عليه.
فلا تهملوا أنفسكم حتى لا تغدو لّوامة تدفعكم للإنتحار كما يحدث مع من جوفه خاويا من القرآن، أو شريرة وطاغية تتلذذ بما حرم الله وتجعل الذات أقل شأنا من البهيمة، بل كونوا توابين أوابين للحق فاعلين، تسمو نفوسكم وترقى ذواتكم إلى طبقات من قال الله فيهم "وحسن أولاءك رفيقا"، وتغدو لكم الأرض ذلولا تمشون في مناكبها وتأتيكم الدنيا صاغرة رغما عنها وترزقون من حيث لا تحتسبون.
فالنفس أشد وطأة على الذات البشرية من وطأة الشيطان نفسه، لكونها جزء أصيل منها وملازمة لها، ولاشك أن أساس التعارضات في الذات البشرية منشأها وساوس الشيطان، ولكن سُرعان ما يندحر عند ذكر الله سبحانه وتعالى، أما النفس تحتاج إلى مثابرة وجهد حتى تستوي، كالطفل الذي يُربّى على أمرٍ فإذا شب عليه صعب انتزاعه، والاختلال في النفس يسبب اضطرابا بين النفس والقلب مما يؤدي إلى اعتلال سلوكي غير مقبول لدى الآخرين، فالنفس البشرية صندوق مليء بالأسرار عجز العلم ووقف محتارا أمام عتبات حقائقه.
فالصلوات الخمس وبينهم النوافل وقراءة القرآن وذكر الله آناء الليل والنهار أحد أعظم وسائل تطهير النفس من درن وبراثن التيه ورفعة للهمة والطمأنينة، فتسمو الذات البشرية وتملء الدنيا خيرا وعدلا وسلاما لتبني لها جسورا إلى جنات الخلد عند مليك مقتدر.
قد تكون النفس في تقديري أهم زاوية في مثلث الذات البشرية، وتأخذ أهميتها حسب المكان والزمان، فمثلا في سورة هود الآية 105، في قوله عزوجل :"يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ" - فهنا أخذت أهميتها في الزمان، وربما لآن الذات البشرية في الدنيا تختلف عنها يوم بعثها. فلم تُذكر النفس مجردة في محكم آيات القرآن إلا عندما تُزهق عن الجسد كما جاء في سورة المائدة ... الآية 32 حيث قال جل في علاه : "مِنْ أَجْلِ ذَ?لِكَ كَتَبْنَا عَلَى? بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا".
لا شك مما سبق أن النفس أهم مكون ولا تنتهي بعكس الآخرين، فهي التي تُفصل عن الجسد عند منامه وهي التي تسافر عنه بلا رجعة عندما مماته. وهي التي تحاسب في الآخرة.
ومراقبة النفس ليس بالأمر الهين، إلا إذا تم محاسبتها يوميا، وجُرد لائحة ما أقترفت الذات البشرية من قولٍ أو فعلٍ، وعدم المبالاة يصبح الأمر بَلادَةً فيعلو الفؤاد غشاوة لا يزول عنه إلا برحمة من الله. ومجهادة النفس ومنعها من سقوطها تحت نير الرذيلة التي قد تودي بها إلى خسارة الآخرة، هي من أولويات الأولويات، لعبور جسر الأمان.
اللهم نعوذ بك من نفس لا تشبع ومن نفس لوامة ومن نفس سيئة لا تخشى الله إلاً ولا ذمة، ونعوذ بك من شرور وسيئات أعملنا اللهم أرنا الحق حقا وأرزقنا إتباعه وأرنا الباطل باطلا وأجنبنا إتباعه وأحسن خاتمتنا وأمِتنا على المحجة البيضاء - والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.