"أنقابل الشرّ بشرٍّ أعظم ونقول هذه هي الشريعة؟ ونقابل الفساد بفساد أعمّ ونهتف هذا هو الناموس؟ ونغالب الجريمة بجريمة أكبر ونصرخ هذا هو العدل؟ ... هذه مقدمة لجبران خليل جبران يحكي حال واقعنا المحزن والمرير. لم تفلح أمة انتشر بها الفساد وتفشى حتى انقرضت وأصبحت أثرا بعد عين. و الله سبحانه و تعالى أنذرنا في محكم آياته من الفساد بمختلف مشاربه، وما آلت إليه أممٌ قد خلت كانت أشد قوة و آثارًا في الأرض. و يتكرر معنا التاريخ و لم نعتبر وقد عميت بصائرنا وشلت عقولنا و ازددنا غيّاً، حتى أصبحنا نحتسي الفساد ممزوجا مع قهوة الصباح، لنزداد جهلاً وسقوطاً.
ومع كل التحذيرات التي ذكرها سبحانه بكتابه العزيز في أكثر من موضع تبين العبر والآيات لأمم خلت من قبلنا، تفشى بها الفساد واستفحل، فدمرها الله وجعل عاليها سافلها، و لا زال طُغاتنا لم يعتبروا، بل اقترفوا أشد الجرائم و عاثوا بالأوطان فساداً و حروباً حتى غدت جريحة، فتحولت جراحها إلى سرطان انتشر في جسدها حتى بدأت تحتضر، فكانت قاسية على شعوبها. فأذاقتهم الويلات من القتل و التنكيل والتهجير.
أما في اليمن فلقد بلغ الفساد ذروته، وغدا سمة من سمات اليمن، و كاد أن يكون جزءًا من النشيد الوطني، هذه حقيقة لا يمكن إنكارها. الفساد كان منتشرا في كل زوايا البلد، ويستطيع أن يراه القاصي و الداني. وهنا لا أستعرض المشهد لأحط من قدر بلدي و أهلي، فهناك مناقب لدينا قلما نجدها في شعوب أخرى، ولكنه التركيز على الفساد كظاهرة تفشت و تميز بها المستأثرون بزمام الأمر، و كان سببا رئيساً في الانهيار الاقتصادي للدولة، الذي اندلعت على إثره ثورة الربيع العربي، حتى تطورت فأصبحت حرباً أهلية غير متكافئة، مما اضطررنا إلى طلب يدِ العون من الخارج لإنقاذ الموقف.
وما يحزننا اليوم هو أن اليمن أصبح في كثير من مدنه بلد أشباح تفوح منه رائحة الموت، يُتخطف فيه أرواح الناس بقذيفة أو بمرض سببه الجوع والعطش، حتى صنعاء العاصمة التي يعتقدون أنها في أطيب حالها ليست ببعيدة في مأساتها عن غيرها. فتجد معلمات ومعلمين يتساقطون أثناء تأدية أعمالهم وغير ذلك من المآسي التي لا تُحصى. لم يعد اليمن سعيدا كسابق عهده فقد أُعيد إلى وضع ما قبل مائة عام خلت.
والأدهى والأمر تعاطي بعض الطفيليين من أبناءه مع الوضع الراهن، لا يكترثون سوى بمنافعهم ضاربين مصلحة الوطن بعرض الحائط. نخروا في جسده كالدود حتى تآكل و أصبح في وضع اختناق لا يمكن السكوت عليه. وللأسف لا يزالون في غيهم و طغيانهم واليمن في أصعب حالاته ككيان ووجود على الخارطة. وأخشى ما أخشاه أن يأتي يوما نقول فيه كانت هنا دولة تسمى اليمن.
ما يحدث في اليمن في وقتنا الحاضر هو نتاج تراكمات لسنوات طوال من الفساد الإداري الذي أعطب أجهزة الدولة حتى أصبحت آيلة للسقوط، غير قادرة على تلبية حاجيات الشعب الأساسية، مع هُزال عملتها النقدية، مما أدى إلى تضخم في الأسعار أثقلت كاهل الشعب. و لم يكن ليصل الوضع لهذا السوء لولا تطبيل المرتزقة "للمخلوع" سواء على مستوى الفرد أو الإعلام، الذي كان يطبل ليلاً ونهاراً وتسويق الباطل على أنه الحق. وهاهم الآن بعد أن وقع الفأس على الرأس لبسوا عباءة الفضيلة والصدق والوطنية، يتلونون كالحرباء حسب ما تقتضيه الضرورة.
ولن يتوقف الفساد في جسد بلدي حتى يُحقن بمضادات الحزم والتطهير لتكنس الجراثيم البشرية التي تقتات على مستحقات المساكين والضعفاء. تُصرف الملايين وتُوزع أفخم السيارات و تُجهز أفضل المضطجعات، تحت مسمى جمع التبرعات والمساعدات المالية، بينما الشعب المغلوب على أمره في مختلف مناطق اليمن يرضخ تحت الفقر والعوز وقلة الطعام والمشرب، ولا ينالهم غير قليل القليل، هذا إن وصلهم منه شيء في الأساس. وما نسمعه من بعض وسائل الإعلام اليمنية الحرة من انتشار ظاهرة الفساد التي عصفت بنزاهة جهاز الشرعية بشكل لافت بدد آمال الشعب في جلاء الظلم والقهر الناجم على أرض الواقع، حتى وصل الأمر إلى المتاجرة بالمساعدات الغذائية التي تُرسل من قِبل بعض الدول والمنظمات الإنسانية. فميناء جيبوتي لهو خير دليل ينطق عن الواقع المرير بمستندات دامغة تفضح فزاعة القبح الذي وصلنا إليه.
وهنا نتساءل دائما لماذا بعض دول التحالف لا تعبأ بحكومتنا المصونة، ولا تعيرها اهتماما؟ لم يكن ليحدث ذلك إلا لأنهم وجدوا في الشرعية أنها لا تستحق الاحترام لكون جهازها الإداري غارقا في الفساد حتى الثُمالة. وهنا تأتي الكارثة التي لا يجدي معها إلا اجتثاث هذه الحكومة بأكملها من سدة الحكم وتدويل قضيتنا أممياً بقيادة رئيسٍ آخر يكون أهلاً للتصدي وحلاً لمشاكل البلاد بحسٍ وطني همه في المقام الأول إعادة كرامة اليمن وشعبها التي أهدرها المتنفعون. فاليمن أصبحت جثة خامدة ينخر فيها من كانوا يشدون أزرنا، ينخرون بها كما ينخر الديدان جثة الميت في قبره حتى ينحل ويذوب تحت الثرى، ثم يتغنون ببطولاتهم، كما يتفاخر الصياد الذي يزين برأس الأسد المحنط مجلسه.
السؤال الذي يطرح نفسه؛ ما هي الإنجازات التي حققتها حكومة هادي حتى الآن على أرض الواقع ؟
طبعا الإجابة لا يوجد شيء يذكر على الإطلاق سوى تغييب الحقائق المريرة التي تنعكس سلباً على اليمنيين في الداخل والمهجر، بل إن الوضع أصبح كابوساً لمن يقطنون بالسعودية الدولة الشقيقة الكبرى. كثير منهم يتم ترحيلهم إلى أرض الموت والعوز ليصطفوا مع البقية ليلقوا حتفهم إن صح التعبير. لا نعلم إلى متى يستمر هذا الوضع المشين الذي ينتهك فيه الحقوق الإنسانية لليمنيين. فأصبحت منازلهم أشبه بأوكار أشباح، يحوم حولها الموت بسبب الجوع والمرض، الذي يهدد قرابة ثمانية ملايين يمني، بينما أعضاء الشرف المترفون يتنعمون في فنادق الخمس نجوم دون الاكتراث بشيء سوى التسابق لملء جيوبهم.
فأزمة شح جوازات السفر فضحت حجم الفساد الغارقة فيه حكومة هادي، ولا نعلم ماذا تخبئ لنا الأيام من كوارث تؤرق مضاجعنا. والمشكلة الأكبر مساحة اللجوء لليمنيين أصبحت أضيق، حتى أن دولاً كنا نعول عليها بدأت ترفض طلبات اللجوء أو حتى الإقامة بها إلا من خلال هجرة للاستثمار .
اليمنيون حيثما حلوا يُحدثون طفرة اقتصادية، ولو كانت الحكومات التي تعاقبت على اليمن من بعد الرئيس الحمدي، حكومات وطنية لكانت اليمن الآن في مصاف الدول الغنية. ولكن تعاقب الظلم والاضطهاد على مر عقود حال دون ذلك. لماذا لا يُستغل ذلك في تهيئة المناطق المحررة، بدلا من نشر الفوضى والذعر بين الآمنين الحالمين بالاستقرار.
لماذا لا يكون هناك مكاشفة مع التحالف العربي ووضع النقاط على الحروف وتحديد مسؤوليات كل دولة لخدمة هدف واحد، ألا وهو تحرير وتطهير اليمن من براثن الحوثيين. وإلا على هادي أن يوسع دائرة التدخل لإسعاف الوضع الذي لا يخدم اليمن إن طال أمده.
هادي و كممثل للحكومة اليمنية هو من يحق له أن يحدد مجريات القرار، وليس دول التحالف التي من المفترض أن تكون تحت قيادة وزير الدفاع اليمني وتحت إشراف سيادة الرئيس عبدربه منصور هادي شخصيا. و ما نراه حتى الآن لا يطمئن على الإطلاق، وخصوصا أن الحوثيين تزداد صلابتهم مع مر الزمن كلما طال الحرب.
أيعقل ثلة كانت تقطن الجبال والكهوف، لم تستطع جحافل التحالف إبادتهم عن بكرة أبيهم منذ خمس سنوات؟ ! . هنالك علامة استفهام، يجب أن نعلم متى تستقر اليمن وتعود كل الجيوش إلى ثكناتها... ننتظر الإجابة عمليا يا سيادة الرئيس المبجل. السكوت على ظلمنا هو بحد ذاته جرم وذنب يُحسب علينا، والله غالبٌ على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون.