رمضان شهر الخير والبركات، تمتلئ أجواؤه بالروحانيات والسكينة والطمأنينة. تكثر فيه المحبة والتراحم بين أطياف المجتمع و يزداد الود والإخاء أكثر كلما اقتربنا من أيامه العشرة الأخيرة. وما أن يأتي العيد إلا والنفوس قد تشبعت بالمحبة حتى تكاد أعينهم تتطاير من الفرحة لتنتهي بالعناق. شهر رمضان هو شعيرة من شعائر الله الذي ميزه عن غيره من الشهور. فأكرمه الله بتطهير أجوائه من الرجس والنجس و تكبيل الشياطين. كنا نستقبله بالأهازيج والأناشيد ونودعه بمثل ما استقبلناه.
قصتي مع رمضان عندما كنت صغيرا، لم أتجاوز الخامسة من عمري. كنت أنا وأختي التي تصغرني بعامين نجلس بجوار جدتي أو ستي كما كان يحلو لنا أن نناديها. كنا نجلس بجوارها نراقبها وهي تعصر البرتقال لتزين به مائدة الإفطار، ثم تضع قشره ولبه الممزوج ببقايا العصير في صحن وتقدمه لنا لنأكله. كنا نقف أمام النافذة لنسمع صوت مدفع الإفطار، حتى نهرول إلى المائدة لنأكل.
نجلس بجوار ستي بعد صلاة المغرب لتحكي لنا قصصها الجميلة، من خيالات القصص التركية التي كانت لا تخلو من الإثارة. أما مائدتنا كانت عامرة و متنوعة، يزينها حديث الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله الذي أعتدنا عليه في برنامجه على مائدة الإفطار، ثم يليه فوازير رمضان للأطفال الذي كنت أنتظره على أحر من الجمر، لازلت أتذكر تلك البرامج البسيطة التي أصبحت جزءًا من حياتنا في رمضان. كانت برامج هادفة لا تخدش الحياء.
وعند العِشاء اذهب مع أبي لأداء صلاة التراويح. أستمع إلى صوت الإمام العذب. وما أن تنتهي صلاة العشاء، أهرول لألعب في باحة المسجد الخارجية حتى ينتهي أبي من صلاة التراويح، أو يعتليني الإرهاق فأجلس في إحدى زوايا المسجد استمع لصوت القرآن وأنظر إلى المصلين وهم يركعون ويسجدون في منظر مهيب، متراصين كأنهم بنيان مرصوص. البعض منهم كانوا يبكون خاشعين لله تائبين يرجون رحماته. إنه رمضان شهر المغفرة والعتق من النار، فطوبى لمن اغتنمه واجتهد فيه بما ينفعه وينفع الناس .
في أيام رمضان تتجلى صدقات الصائمين و أعطياتهم للفقراء أكثر من غيره من الشهور، فيعطونها بنفوسٍ طيبة و وجوهٍ بشوشة وكأنهم يترجونهم أن يقبلوا منهم. فكانت فرحتي تصل عنان السماء عندما يُوكل أبي هذه المهمة إلي، فيعطيني بيدٍ خفية بعض الريالات لأدفعها للفقراء و المحتاجين بجوار المسجد، كان يفعل ذلك يومياً حتى تعودت وأصبحت جزءاً من طبعي. أما الشوارع وبين جنبات الأحياء كانت تُمد بها الموائد بما لذ وطاب هدية للجميع، للفقير والمحتاج و عابر السبيل وغيرهم ممن لم يسعفهم الوقت للوصول إلى أهليهم. أيام جميلة وطيبة يصعب نسيانها. ليتني أُرجع عقارب الساعة إلى ذلك الزمان حتى أستزيد من عبقه.
كنت أعشق في رمضان شراب الفيمتو الذي حتى الآن لم نفارقه، و بدونه تصبح المائدة في نظري غير مكتملة ويفقد الإفطار لذته. تذكرني قارورته بعبق تاريخه الذي نشأنا معه. أما عندما يحل الليل كنا نعتلي سطيحة المنزل لننام داخل الناموسية حتى تقينا من لدغات الحشرات الطائرة.
في رمضان تظهر كل معاني الود والإخاء بين الجيران في صورة تبادل أطباق الأكل بأنواعه من حلوة وشربة أو فطائر، فكانت أمي تولي هذا الجانب اهتماما كبيرا لتكسب الأجر. فكانت ترسل معي طعاما لجارة لنا، قبل الإفطار بدقائق كهدية تودد في رمضان. أحيانا جارتنا تبقينا في بيتها أنا و أختي لنفطر معها. كانت لطيفة تفرح بنا وتلعب معنا، لم يكن لديها أطفال. كانت تشتري لنا بعض الحلوة من بقالة الحي وكأنها والدتنا، كانت رحيمة وطيبة.
أما يوم الجمعة كنا نذهب إلى مكة جميعا لنفطر داخل أروقة الحرم. فأول ما نرى مشهد الكعبة المهيب الذي يخطف القلوب ويهز المشاعر فيتجلى نورها وهيبتها، حتى تنهمر منا الدموع باكين أمام بيته العظيم. إنه المولى جل في علاه، نسأله المغفرة والتوبة، لعله يتقبل منا. وما أن نرتكن في أحد زوايا الحرم حتى وتبدأ أمي بتجهيز سفرتنا المصغرة التي تحتوي على بعض اللقيمات والشربة لكي تشد أصلابنا حتى نصلي التراويح جمعا.
أما عن صيامي، كنت أصوم يوما وأفطر يوما، ولكن كنت أشرب الماء خلسة حتى لا يراني أحد. طبعا جدتي تلاحظ ذلك و تتجاوز. أما أختي مرفوع عنها القلم، كانت لا تتعدى الثلاثة من عمرها. حاولت كثيرا أن أصوم شهرا كاملاً، ولكن لشدة أجواء جدة الحارة كنت أشعر بالعطش، ولا أتحمل، لصغر سني حينها.
رمضان أيامه كلها جميلة ولها عبقٌ خاص في نفسي يصعب نسيانه، مع نسمة كل صباح، قلبي يتعلق شوقا بقرب أيام العيد، فنذهب مع والدي لنتبضع في أسواق جده العتيقة، سوق الندى وباب شريف وباب مكة، كلها أسماء تذكرنا بتاريخ جدة العتيق. كنت استمتع وأنا أرى الملابس وأنواعها الجميلة. يوشك رمضان أن تنتهي أيامه ويقترب العيد، وها هي قصتي تنتهي و هناك الكثير و لكن لم تسعفني ذاكرتي لكتابة المزيد عن طفولتي في أيام رمضان الجميلة وللحديث بقية في قصة من قصص حياتي.