جلس فوق مقعد في نهاية الطاولة يطل على الشارع لتناول وجبة العشاء بأحد المطاعم الشعبية بصنعاء.
كان الوقت بعد صلاة المغرب، وحين بدأ بإلتهام أول لقمة وقعت عيناه على إمرأة في الرصيف قرب باب المطعم تبدو في سن الثلاثين، وتظهر ملامحها أنوثة ونظارة، وتحتضن بجانبها الأيمن طفلة لايزيد عمرها عن عامين.
كان يراها من خلف الباب الزجاجي للمطعم، وهي تناظر بعينيها إلى داخل المطعم، ثم تلتفت إلى الشارع.
تسمرت يمينه، وأحس بغصة في حلقه، وفقدان للشهية.
سأل نفسه: أيعقل أن أمرأة في هذا السن، وبهذا المستوى من الأنوثة تتسول الناس لإطعام طفلتها.
شعر بالخجل، وأحس أن اللقيمات التي يتناولها تحاكم ضميره من الداخل، ودوى في داخله صوت مرتفع: "أنت تأكل هذا الطعام بكل اطمئنان بينما غيرك في الشارع لايجد ما يأكله".
حاول نسيان الأمر، لكن مقاومته باءت بالفشل، وكلما رفع حاجبه إلى الشارع وقعت عيناه على تلك المرأة وطفلتها، ومرة أخرى يحس بالإضطراب في أعماق نفسه.
ما ذنب هذه الطفلة التي تتلفت يمينا وشمالا وتراقب حركة المارة في الشارع، وتمعن في الناس الذين يتناولون الأكل بشراهة داخل المطعم.
ماذا ستحتفظ في ذاكرتها عندما تكبر؟ ولماذا رماها القدير بهذا القدر وفي هذا السن المبكر من حياتها؟
ليتني أستطيع أخذ تلك الفتاة من حضن أمها، وسأطعمها هنا بيدي، إنها في سن شقيقتي الصغرى، هكذا حدثته نفسه.
كانت وجبته قليل من الفاصوليا والبيض، لكنها تحولت إلى ما يشبه الحصى عند أكلها، بل وطال وقت تناولها وكأنها ساعات.
لاتزال المرأة تواصل النظر إلى الداخل، شعر وكأنها تخاطبه بأن يترك وجبته ومكانه ويأتي إليها ليمنحها ما تيسر من المال، إن لم يكن لأجلها، فلأجل تلك الفتاة الصغيرة.
قرر أن يترك ما بقي من الأكل، وأن يخرج إليها ويمنحها مبلغا يفوق ثمن وجبته أربع مرات، لعل ذلك يجلب الرضا لضميره.
عندما هم للقيام من مكانه هرع طفلا آخر يبدو في الخامسة من العمر من داخل المطعم إلى تلك المرأة واعطاها كيسا من الأكل، ومضى معها.
كان ذلك الطفل هو ابنها، وكانت تراقبه من الخارج ربما خوفا عليه، وعندما التفت للشارع وصلت سيارة يبدو أنها تابعة لزوجها.
صعدت إلى داخل السيارة، وغادر الجميع.
أما هو فقد نقل مكانه إلى الطرف الآخر من الطاولة، لتلتصق عيناه بالجدار، بدلا من رؤية الشارع.
نظر إلى الأكل، وشعر بأن إناء الطعام وحبات الفاصوليا المتبقية ستنفجر في وجهه من الضحك على هذا الموقف الذي مر به.
أخذ قطعة خبز كبيرة، ومسح ما تبقى من الفاصوليا، ودسها في فمه، ولم يكمل بلعها إلا في الشارع.
سأله ضميره: إلى أين؟
أجاب: إلى المكان الذي سأنزعك فيه من داخلي وأستريح.