كنت وما برحت من المهتمين بأمن السودان كاهتمامي بكل قطر عربي، لكن اهتمامي بالسودان له أبعاد ثلاثة، البعد الأول أن السودان سلة الوطن العربي الغذائية، البعد الثاني امن البحر الأحمر الثالث الشعب السوداني شعب عريق لا يقبل الذل والمهانة كحال الشعب العراقي العريق، وقدم لكثير من الأنظمة العربية خيرة رجاله في جميع المجالات، وأنه رصيد بشري يشد من أزر هذه الأمة العربية المبتلاة بحكام ليس همهم سوى البقاء في هرم السلطة إلى يوم يحملون على آلة حدباء في طريقهم إلى الدار الآخرة ولعنات الشعب العربي تلاحقهم حتى مثواهم الأخير، والتاريخ لن يرحمهم، سيبقى ينبش قبورهم ما دام الإنسان العربي يسير على الأرض، والتاريخ كله عبر، فهل يعتبرون؟
في 20 يوليو 2004 كتبت في هذه الصحيفة تحت عنوان «السودان في خطر!» ذكرت فيه «أمعن العرب مع الغرب في حصار السودان كما فعلوا في حصار العراق مرضاة لأمريكا واليوم السودان يتعرض للتفكيك والتجزئة.. الخ» وفي 21 من سبتمبر من العام ذاته وفي الصحيفة ذاتها كتبت تحت عنوان «أنقذوا السودان يا عرب قبل الضياع» ذكرت فيه «هل سيأتي اليوم الذي نكتشف فيه بالصوت والصورة والتوقيع أن ولاة الأمر فينا ــ ولم اقل منا ــ «الكبار» باعونا ــ نحن الشعب ــ وباعوا الوطن وثرواته بأبخس الأثمان لدولة الاستكبار العالمي، وان ثمن البيع الذي قبضوه ليس نقدا وإنما هو «وعد الرجل الأبيض» ببقاء هؤلاء الحكام «الكبار» في مراكزهم وحمايتهم وتوريث أبنائهم من بعدهم ومنحهم حق التصرف في الشعب والموارد بلا قيود؟ «.
وأكملت قائلا «بعد احتلال العراق وتهديد السودان بالتجزئة والتفكيك وتهديد سورية الحبيبة بالعبث بمستقبلها ووضع اقتصاد مصر وأمنها في مهب الريح والسعودية تتقاذفها الرياح، وفي اليمن حرب طاحنة بين النظام ومعارضيه راح ضحيتها مئات من الأبرياء تحت دواعي محاربة الإرهاب... الخ».
اليوم أعود للشأن السوداني وأرضه تهتز تحت أقدام الشعب في معظم محافظاته إن لم تكن كلها وأصواته تتصاعد مطالبة بالحرية والعدالة وحفظ كرامة الإنسان ورفع الظلم ووأد الفساد واحتكار السلطة وحقه الطبيعي في رغيف الخبز بكرامة لا بالمهانة والمنة، مناديا السودان في خطر، أنقذوه قبل فوات الأوان، وإلا فإنكم ستعضون على أناملكم معشر الحكام ندما لما سيلحق بالسودان وأهله كما ندمتم على ما أصاب العراق الشقيق وأهله.
المهرجانات الخطابية سيادة الرئيس البشير في أنصاركم لم تعد مجدية، اجتماعاتكم فخامة الرئيس برجال الأمن والشرطة والجيش والمخابرات تؤجج النار المتقدة في شوارع السودان، بدلا من ذلك كان الأولى الاجتماع مع قيادات المعارضة الوطنية ومفكري السودان والاستجابة لإرادة الشعب ومطالبه العادلة. سيادة الرئيس ثلاثين عاما وانتم على هرم السلطة لا شك بأنكم قدمتم الكثير وبنيتم الطرق والمدارس وغير ذلك، كل ما فعلتم هو واجب النظام الحاكم وليس معروفا أو منة، لكنكم في الجانب الآخر تركتم الفساد يعشعش في كل زوايا الدولة كما يقول أكثر الناس قربا إليكم وليس فقط صوت المعارضة واستشرى الظلم وزادت حدة الفقر وقل الدواء وانعدمت السيولة النقدية وتردت الأوضاع الاقتصادية وامتنع القرار.
هتافات «الله اكبر» في خطبكم الجماهيرية محببة إلى النفس وتبعث للطمأنة ولكن لو قرنت بالقول «الله اكبر على الظالمين، على الفاسدين، على الطغاة، على القتلة وقرنت ذلك التكبير بالعمل لكان وقعها أكثر في النفس وأعلى مراحل الطمأنة. زين العابدين بن علي الهارب ( تونس ) قال للشعب بعد قرابة العشرين عاما وهو يحكم تونس وفي خطاب متلفز عندما اشتدت المظاهرات والمسيرات السلمية ضد نظامه الظالم «فهمتكم» وقال القذافي لشعبه بذات الوسيلة «من انتم ؟» بعد أربعين عاما، وقال حسني مبارك لشعبه «ماعرفش انتم عاوزين ايه» والأمير محمد بن سلمان قال «سأجتثهم من جذورهم» وقلت آنت يا فخامة الرئيس في خطاب متلفز وبعد إعلان سقوط قتلى من الشعب بسلاح رجال الأمن «ولكم في القصاص حياة» ما أقسى هذه العبارة على الشعب المطالب بالعدل ورفع الظلم ورغيف الخبز وحقه في الدواء!. إن زيادة مرتبات العمال ابتدأ من هذا الشهر يناير بعد ثلاثين عاما وبعد مظاهرات واحتجاجات ودماء في تقديري هو نوع من الرشوة لإسكات الناس، وكان الأولى زيادة المرتبات والأجور سنويا بنسبة التضخم التي تسود البلاد كما يجري في دول العالم المتحضر.
في الجانب الآخر يجب أن تكون قوى المعارضة السودانية وجماهيرها أكثر انضباطا وحرصا على سلامة أملاك الناس والممتلكات العامة وعدم استفزاز رجال الأمن لأنهم مسلحون ولن يترددوا في مواجهتهم بالعنف تحت شعار الحرص على الأمن ومحاربة العملاء والمندسين والخونة. وقادة المعارضة عليهم أن يكونوا أكثر عقلانية، وإسقاط النظام ليس بالأمر السهل، لكن إصلاحه وإسقاط رموز الفساد ضرورة وطنية وأمر ممكن. وخير وسيلة للمعارضة والشعب لنيل الحقوق هو العصيان المدني وإخلاء الشوارع من المارة والتزام المنازل بدلا من العبث بالممتلكات العامة ومواجهات رجال الأمن المسلحين.
أصدقاء النظام الحريصون عليه، عليهم نصرته «ظالما أو مظلوما» إن كان ظالما فرده عن ظلمه ولو بإسقاط بعض رموزه، لا يجوز لهم الوقوف متفرجين على ما ستؤول إليه الأمور في السودان، قوى عربية وأجنبية متربصة بالسودان وتريد أن تجره إلى بحر من الفوضى والتفكيك للشماتة وإرهاب شعوب عربية من التحرك ضد تلك الأنظمة الظالمة الفاسدة وعلى أصدقاء السودان والمعارضة السودانية إدراك ذلك الخطر المميت. الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يجب أن يدلي بدلوه في تقديم النصح للرئيس البشير في هذه الأزمة بأن مواجهة الشعب بالعنف المسلح والاعتقالات والمداهمات الليلية لمنازل قادة الفكر والرأي وإسكات الإعلام كلها أدوات لا تخدم النظام بل تزيد استعداء الشعب ضده، الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يجب أن يوفد ثلة من حكمائه المشهود لهم لمقابلة المعارضة والرئيس البشير وأركان نظامه وتقديم مشروع مصالحة بين النظام ومعارضيه يتضمن ذلك المشروع إلى جانب «أمور أخرى» مشاركة قادة المعارضة في صناعة القرار في البلاد والاتفاق على مشروع وطني جامع يحفظ وحدة السودان وسلامة أراضيه وسيادته واستقلاله.
آخر القول: خذوا سوار الذهب نموذجا في الوطنية، وسارعوا أيها المخلصون للشعب السوداني لإنقاذ السودان من الانهيار قبل الندم، واعلموا أن الله مع الصادقين.
*عن صحيفة الشرق القطرية