يحتار المرء في أي عناصر قصة جمال خاشقجي أكثر إثارة وبقاء في الذاكرة:
هل هي اللقطات الأولى التي تصوّر دخوله إلى القنصلية السعودية في إسطنبول قبل أن يصبح اختفاؤه واكتشاف مقتله لاحقا خبراً يهزّ العالم؟
أم لقطات خطيبته وهي تنتظر ساعات وهي ينتابها القلق؟
أم صور فريق الإعدام واللقطات الكثيرة التي اكتشفت عن تحركاتهم من الشخص الذي تنكّر بملابس الضحية ماشيا مع أحد الكومبارس (ونسي حذاءه ثم غيّر ثيابه وعاد إلى فندقه) إلى الفريق الذي نفّذ الاغتيال ثم ذهب لأكل الشاورما وشرب الخمر، أم قصتهم في الشريط المسجل الذي كشف تفاصيل الخنق والقتل والتقطيع على صوت الموسيقى؟
أم هي نظرة ابن الضحيّة صلاح الذي كان ممنوعا من السفر واستدعي على عجل بملابس غير مكويّة لاستثماره في الترويج للسلطات عبر مصافحة المتّهم بقتل والده بدعوى تعزيته؟
أم الإعلانات المتناقضة للسلطات السعودية من الإنكار الكلّي للحادثة واعتبارها مؤامرة ضد السعودية ووليّ عهدها وصولا إلى اضطرارها، تحت الضغط العالمي الهائل، للاعتراف المجزوء بها وإعلانها اعتقال 15 شخصاً من دون عرض إفاداتهم، واختفاء قنصلها وزيارة مدعيها العام للمملكة المريب النظرات الخ…
توقفت القصّة المذهلة عند نقطة استفهام كبرى تتعلّق بما حصل لجثة الصحافي المنكوب، وآخر ما استجد في الموضوع تصريح للنائب العام التركي يؤكد العثور على عينات من الأسيد والمواد الكيميائية في البئر الموجودة في بيت القنصل السعودي وفي مياه الصرف الصحي في المنطقة وتأكيد لـ«مصادر تركية» بأن «القتلة أذابوا جثة خاشقجي بالأحماض داخل إحدى غرف منزل القنصل السعودي».
المفاجأة أن آلة إعلام المملكة ونفوذها في دول العالم والمنطقة توقفت عن العمل لأن الحقيقة ظهرت للعيان وتم افتضاح الجريمة وتوثيقها ومتابعتها في الإعلام الدولي والعربي، وبالتالي فإن اعتراف السلطات السعودية بالطريقة التي تم فيها التخلّص من الجثة أو عدم اعترافها لم يعد الأمر الرئيسيّ.
لقد تعدّى الأمر التفاصيل الجنائية التي شغلت العالم وما بقي هو التصاق صورة حكام السعودية، وبالخصوص وليّ عهدها محمد بن سلمان، بالحدث، وهو أمر لا يمكن إزالته، كما يُظنّ أنه حصل للجثة، بأحماض الأسيد أو المنظفات.
تلعب عناصر قضية اختفاء جثة خاشقجي، والأدلة المتزايدة على طريقة التخلص منها، مع تمنّع سلطات الرياض عن الاعتراف بطريقة القتل والإخفاء، دوراً في إبقاء شبح القتيل يطارد القاتل بشكل لم يعد ممكناً وقفه، فهذه الحالة ستبقى، على عكس ما يريد البعض، معلّقة دائماً، فغياب الجثة يلعب دوراً في استمرار حضور قصة صاحبها في الأذهان وهو ما يعرّض الآمرين بتنفيذها لمحنة من غير الممكن التخلّص منها، وهكذا تصبح فكرة الجريمة ملتصقة مثل اللعنة بالقاتل ولا يمكن إخفاؤها كما حصل مع الجثة.
يذكّر الأمر بالرواية الخالدة للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي، «الجريمة والعقاب»، التي تصوّر تداعيات الجريمة في نفس القاتل بشكل لا يمكن الهروب منه بأي طريقة، كما تذكر بالتأكيد بالآية الكريمة «ومن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا».