للموت رهبة لا يشعر بها إلا من عايشها عن قرب، وهذه المفردة بحد ذاتها كافية لهز الروح والجسد لمجرد ذكرها، وهي ذاتها الكلمة الأسرع التي ننساها، والنهاية الحتمية التي تنتظر الواحد منا.
كل نفس ذائقة الموت، هكذا يصف القرآن الكريم الموت، بينما وصفه الشعراء بالباب الحتمي الذي سيدخل منه كلا واحد منا، أيا كانت أسباب الموت.
ذات يوم توفي أحد الأصدقاء بالقاهرة، وأرسلت جثته في صندوق محكم الإغلاق إلى مطار صنعاء، وكان على زملائه أن يستقبلوه ليرسلوه إلى مدينة تعز، حيث يلقي أهله عليه نظرة الوداع، ويوارى جثمانه في قريته بالمخلاف.
سافرنا بثلاث سيارات بعد صلاة المغرب، وكنت مع اربعة آخرين في الباص الذي وضع فيه الجثمان.
طوال الطريق بدوتُ أنا ميتا حي، هذا زميلي بقربي ميت، ممددا داخل صندوق في هذا الباص الذي طالما سافرنا فيه سويا إلى عدة قرى ومديريات في تعز، واليوم هو جثة هامدة، ويقضي الساعات الأخيرة له على الدنيا قبيل الانتقال إلى الآخرة.
كانت لحظات مليئة بالوحشة، واستعراض كافة المواقف واللحظات التي قضيناها معا، او تلك عشتها بشكل شخصي في حياتي.
تصبح الخطيئة الصغيرة حينها كبيرة، وتتحول الأحداث الماضية إلى سياط تجلد النفس والروح، وتلهب المشاعر، فما قيمة الحياة حين تدرك أنك ذات يوم ستكون محل ذاك الشخص الذي ينام بجوارك ميتا، وقد كان من قبل يملأ الدنيا حبورا وحياة وشغب.
كيف يجرؤ الموت أن يقضي على كل تلك الحياة في لحظات؟ ويحولك إلى مجرد جسد لايقوى على شيء ولا قيمة له ولا وزن؟
لا يهاب الموت أحد، ولا يضع قيمة لأي مخلوق، يمارس وظيفته بكل قوة ومتحديا كل وسائل الحماية، وغير آبها بأي مشاعر، إنه سلطة قهرية صلبة وقاسية.
اشتعلت هذه المشاعر في الذاكرة عندما ارتفعت بشكل مفزع أصوات باكية بجواري من قبل أربع نساء وهن ينعين قريبة لهن خطفها الموت فجأة.
وجمت الجدران قبل النفوس، والجميع يشاهد تلك النسوة وهن يتوجعن وأصواتهن ترتفع طلبا للرحمة، ولكن لا مجال لذلك.
كان الميت شابة أصيبت بمرض وتم إسعافها إلى مصر لتلقي العلاج، تحسنت حالتها وتماثلت للشفاء.
أعيدت لبيتها، وبعد أيام سقطت في إحدى غرف المنزل وتضرر جسمها، أسعفت للمستشفى لكنها لفظت أنفاسها الأخيرة.
هنا مشهد يصعب تخيله، لقد فزع كل من كان بالمكان، إن ملك الموت يحوم هنا، وقد خطف روح أحدهم للتو.
سارع أقارب الراحلة وغطوها بقطعة قماش، وعلى متن عربة طبية أخرجت خارج المستشفى، يرافقها بكاء وحرقة وألم الفراق، وتتعالى الأصوات والآهات وتتساقط الدموع، والموت يلف كل المكان.
أمام بوابة المستشفى اقتربت سيارة هايلوكس (غمارة) وضع فوقها الجثمان، ومن هناك ستتجه لإجراء آخر حقوق الواحد منا في الحياة، غسيل، تكفين، صلاة الجنازة، تشييع، دفن.
كيف سيقضي ذويها ليلتهم، وكيف سيكون حالها في أول ليلة لها في الحياة الآخرة.
إنه الموت يا سادة، هاذم اللذات الذي لا يجامل، ولا يتأخر.