وضعت الأحداث الأخيرة التي شهدتها - ولا تزال تشهدها - محافظة المهرة؛ سكان المحافظة واليمنيين عموماً أمام خيارات صعبة للغاية، في ما يتعلق بالمبادرة التي يتعين عليهم اتخاذها لإيقاف نزيف الكرامة الوطنية الذي تسبب به الانتشار العسكري السعودي المفاجئ والكبير في محافظة المهرة.
فقد تلا هذا الانتشار تمركزٌ للقوات السعودية في مفاصل مهمة من جغرافيا المحافظة، على نحو يكشف عن الطبيعة الحقيقية لأهداف هذا الانتشار، وهو فرض السيطرة وربما اقتطاع هذا الجزء الغالي من تراب الوطن مدفوعاً برغبة سعودية قديمة في الوصول إلى بحر العرب، والتي يجري تحقيقها اليوم تحت يافطات اقتصادية في ظاهرها، وجيوسياسية في باطنها ومغزاها المستدام.
لقد جاء الانتشار السعودي وسط حملة مكثفة من منظومة الإعلام السعودي والإماراتي؛ استهدفت إظهار محافظة المهرة كمنطقة مفتوحة على مصراعيها على أعمال التهريب ونقل الأسلحة، والتي يفترض أنها تتم عن طريق البحر مروراً بالبر ووصولاً إلى الحوثيين، وهي حملة استقطبت اهتمام الكثير من المتابعين الذين كانوا لا يزالون يعتقدون أن حملة كهذه مرتبطة بالفعل بحرص سعودي إماراتي على الحسم مع الحوثيين وقطع مصادر الإمدادات عنهم، فيما نحن نرى اليوم محافظة المهرة تتكرس كساحة كاشفة للأطماع السعودية التي لم تتوقف في الأراضي اليمنية.
فقد تمركز الجيش السعودي في مواقع عديدة داخل المحافظة، بينها بالطبع المنافذ الأربعة الرئيسية التي تربط اليمن بدول الجوار عبر محافظة المهرة، فارضاً سيطرة مطلقة على حركة التجارة والناس عبر هذه المنافذ؛ التي كانت قبل دخول القوات السعودية إلى المهرة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 تخضع لسيطرة القوات اليمنية الأمنية والعسكرية.
لم يركز الوجود العسكري السعودي على ساحل محافظة المهرة الذي يزيد طوله على 500 كيلومتر، فقد بقي خالياً من الرقابة المفترضة المبنية على مخاوف يبدو أنها لم تكن سوى ذريعة للتوسع العسكري السعودي في أكثر مناطق اليمن استقراراً وأمناً.
فقد سعت القوات السعودية، عوضاً عن التركيز على الساحل، إلى تقطيع أوصال المحافظة ومعها تفكيك بنية المجتمع القبلية إلى أطراف متصارعة، وتقوية الأطراف العشائرية المرتبطة أكثر بالنفوذ السعودي وتركيز السلطة المحلية بيدها، مستندة إلى حملة تجنيس طويلة الأمد استقطبت أعدادا كبيرة من سكان بادية المهرة والقسم اليمني من الربع الخالي، في مقابل السعي الحثيث إلى إضعاف قوى النفوذ التقليدية في المحافظة من سكان التجمعات الحضرية الرئيسية ومنطقة حوف الخضراء، والتي ترتبط بعلاقات خاصة مع سلطنة عمان.
لم ينس اليمنيون التبعات الثقيلة التي فرضتها علاقة جوار غير متكافئة مع جار غني بالنفط ومفتقر للحكمة، مثل المملكة العربية السعودية، على نحو أبقى نزيف الكرامة الوطنية مستمراً في شكل الترحيل الجماعي للآلاف من المواطنين اليمنيين؛ بسبب التطرف غير المحتمل في قوانين الهجرة المفروضة على شعبٍ جار يزهو بالعراقة وبالحضور الكبير في عمق التاريخ.
لم تشهد العلاقات اليمنية فترة متصلة من الازدهار والاستقرار، طيلة القرن المنصرم وخلال الفترة المنقضية من بداية الألفية الثالثة، والأمر يعود بالطبع إلى سوء نوايا الرياض ورغبتها المستمرة في اقتضام الأراضي اليمنية.
وزاد أن استحكمت حالة العداء السياسي من جانب المملكة العربية السعودية تجاه اليمن، منذ أن قرر اليمنيون إنهاء العهد الملكي وتدشين عهدٍ جديدٍ من الجمهورية، حينها استنفرت السعودية كل إمكانياتها العسكرية والمالية لحشد جيش من المرتزقة في محاولة انتهت بالفشل؛ لإجهاض ثورة 26 أيلول/ سبتمبر 1962 ضد آخر الأئمة الزيديين، ولكنها للأسف نجحت في إعادة التموضع بأدواتها ورجالها في قلب الجمهورية لإفساد مخطط التغيير الذي كان يطمح إلى تأسيس نموذجٍ للجمهورية المستقرة والمتمتعة بالوفرة في جنوب شبه الجزيرة العربية.
تكرر هذا الموقف السيئ من جانب المملكة تجاه ثورة الحادي عشر من شباط/ فبراير 2011، وهو الموقف الذي أخذ شكل مواجهة عسكرية شاملة تورطت فيها الرياض، وأخذت كذلك شكل توسعٍ جيوسياسيٍ يضمر نيةً للاستيلاء طويل الأمد على أجزاء مهمة من التراب اليمني كما يجري حالياً في المهرة.
تاريخ العلاقات اليمنية السعودية يكشف حقيقة المملكة كجار أناني وثقيل الظل؛ تحكمه عقدة الخوف من المارد اليمني الذي اختار طريق الجمهورية والديمقراطية، وحاول أن يتكرس كنموذج للتغيير على قاعدة الإرادة الشعبية وحكم الشعب في هذه البيئة العشائرية المغلقة من شبه الجزيرة العربية.
وتحت الشعور بعقدة الخوف من تعافي الدولة اليمنية وتعاظم نفوذها، مضت الرياض في سياساتها الرامية إلى إضعاف الجار الجنوبي، على مستويات عدة، فدعمت واستثمرت في تجريف الدولة وحضورها في معظم المحافظات والمناطق المتاخمة للحدود السعودية التي تم إعادة ترسيمها بشكل نهائي (ولكن غير منصف) عام 2000، ضمن صفقة كانت تخص أكثر ما تخص تسوية الخلاف الطارئ بين النظام السعودي والرئيس السابق علي عبد الله صالح، على خلفية موقف الأخير من الحرب الخليجية الأولى.
لم تحسن السعودية التعامل مع اليمن حتى باعتباره حديقة خلفية، فهذه الحديقة التي هيمنت عليها طيلة الخمسة العقود الماضية من الزمن، خسرتها بطريقة مثيرة للدهشة. فقد جاء البستاني الإيراني ليتعهدها جاهزة وارفة الظلال والثمار، لتبدأ حرب بالوكالة تخطئ الرياض إذا اعتقدت يوماً أنها مناسبة مهمة لإعادة تقطيع أوصال هذه الحديقة (اليمن) أو قضمها، أو تكريس منطق الدولة الضعيفة في جنوب شبه الجزيرة العربية إلى الأبد.