اشتغلت الرواية المغاربية على التاريخ الوطني وحوّلته إلى مادة إبداعية تحكمها منظومة التاريخ. تارة من باب الترديد للمقولات السائدة والمتوارثة وتارة من باب الخيبات اللاحقة. ظل التاريخ شغلهم الشاغل. ويتعلق السؤال ههنا، باستعادة التاريخ الوطني المغاربي، وإعادة قراءته في زواياه الأكثر تخفيا. لم يكن يهم الكاتب المغاربي الوطني التاريخ الرسمي إلا من حيث هو مادة متداولة بين عدد كبير من المواطنين ومتاحة للجميع.
وجد نفسه مغلقا عليه داخل سؤال مقلق لا يعبر عنه إلا قلق الرواية: لماذا لم تفض الثورات الوطنية، على الرغم من ضخامة التضحيات، إلى ما كان يفترض أن تفضي إليه؟ شيء ما لم يكن على ما يرام في حالة الوعي الذاتي للثورة الوطنية.
هناك مزلق ما حدث في فترة ما من الفترات، فدمر الثورات من داخلها وأفرغها من محتواها ليحولها إلى مجرد كلمات وخطابات تستنهض في المناسبات الوطنية الكبرى. التاريخ الوطني المكتوب لا يوفر في الأغلب الأعم إلا صيغة سهلة ومتداولة وربما مستهلكة عن هذا التاريخ. وكان لا بد من البحث في التاريخ الجانبي الذي كتبه الصديق والعدو معاً لإيجاد اللحظة الروائية التي أدت إلى الانفجارات المتلاحقة وعصفت في ما بعد بإيجابيات الثورة.
وربما كانت هذه اللحظة الملتبسة بالمتخيل غير المفصول عن الحقيقة التاريخية المقارنة هي التي أنتجت جيلاً مجّد الثورة حتى أجهضها وقتلها وحوّلها إلى مصالح دنيوية صغيرة مع الإصرار على الحفاظ على الخطاب لأنه هو ما تبقى لستر عورة تجربة قُتلت قبل أن تثمر. الغريب هو أن خطابنا التاريخي الذي قال الكثير عن الغطرسة الاستعمارية، صمت أو لم يقل شيئا عما كان يحدث داخل الثورة وكأن ما كان يحدث داخلها لا ينتمي إلى التاريخ ولا إلى الثورة.
ما الذي دفع بالإخوة إلى الاقتتال؟ التاريخ لا يمنحنا كإجابة إلا البياض المقلق. لماذا اغتيل القائد الكبير عبان رمضان الذي نعته الثورة في جريدة المجاهد في 1958 في مربع مجلل بالسواد تحت عنوان: عبان رمضان يسقط في ميدان الشرف، بعد خمسة أشهر من اغتياله: «في النصف الأول من شهر أفريل، وقع اشتباك عنيف بين قواتنا وقوات العدو مما دفع بفيلق الحماية الذي كان يقوده أخونا عبان رمضان إلى التدخل.
وخلال المعركة التي استمرت ساعات طويلة أصيب عبان رمضان بجراحات بليغة أودت بحياته.
الخبر الذي وصلنا كان مفجعا. إن الوجه السمح لعبان رمضان وشجاعته وإرادته الصلبة ستبقى قدوة لنضال الشعب الجزائري. نبكي اليوم بمرارة افتقاد أخ في النضال ستظل ذكراه منارة أبدية لنا… ». لم يعترف أحد باغتياله إلا في السنوات الأخيرة. عندما كنت أكتب عن هذا الرجل وأستعيد الصراعات الداخلية العميقة، بدا لي وقتها كأنني كنت أقول ما يناهض التاريخ وأن الرواية كجنس وجدت للاعتداء على حرمة المقدس والمسلم به. وصودر النص الذي طبع في بيروت ودمشق بعدم إدخاله إلى الجزائر. الطريقة المثلى لحرمان القارئ الجزائري من كتاب هو أول المعنيين به. ولكن بعد أكثر من عشرين سنة من صدور الرواية، يأتي من القادة من يؤكد ما افترضته الرواية حقيقتها، لتصبح حقيقة الرواية التي انبنت على النظرة النقدية للأشياء أكثر صدقاً وأقل ادعاء بالارتباط بالحقيقة التاريخية المطلقة. يجب أن لا ينظر، طبعا، إلى ذلك من باب التنبؤ كما يقول ميلان كونديرا مثلما ينظر إلى كتاب جورج أوريل1984، لأن ما قاله أورويل كان يمكن أن يفصل فيه بدقة أكثر أي بحث تأملي في الموضوع.
و لكن يجب الاعتراف ههنا بقدرة الرواية على اكتشاف ما لا تستطيع الأجناس الأخرى فعله. من هنا يبدو لي أن الكتابة عن التاريخ لا تفترض بالضرورة تمجيد الماضي ووضعه في علبة المقدس، ولكن العمل الهادئ عليه وقراءته من أجل فهم المفاصل التاريخية المهمة التي يمكن للرواية الاستناد عليها. فالتمحيص لمعرفة النواة الحاسمة في كل التغيرات اللاحقة، ليس بالضرورة عملاً مغرضاً أو معادياً للخطابات المتسيدة. عندما تتم السيطرة على كل الخيوط المتشابكة، تصنع الرواية مساراتها الحيوية. فهي تدرج الوقائع التاريخية المرتبكة ضمن متخيل يعطي الإيهام بالحقيقة الموضوعية التي ليست مهمة إلا من حيث هي تعبير عميق عن لحظة متحركة في التاريخ تستطيع الرواية إلقاء القبض عليها في كامل توهجها.
من صلب هذه اللحظة تنجز الرواية عالمها وشخصياتها ومصائر شخصياتها المتضاربة وتحاول إلقاء الضوء على اللحظات الأكثر حساسية والأكثر إنسانية التي يعجز التاريخ عن الدخول في عمقها. فمسار التاريخ خطي بينما مسار الرواية لا يمكنه إلا أن يكون عموديا وأحيانا متعرجا، متوغلا باستمرار في دهاليز المسلمات التي سرعان ما تفقد صفتها العادية لتصبح عالما معقدا ومرتبكا ومهزوزا.
لا يتعلق الأمر ههنا بمعارضة التاريخ أو محاكاته مبتورا أو كاملا فليس هذا من وظائف الرواية كجنس ولكن العمل الأساسي يتطلب الدخول في عملية تحويلية مركبة تتفكك فيها عناصر النص الأول في بنية النص الثاني الذي يمنع عنها أي استقلال ذاتي خارج فضاءات الكتابة الأدبية. فالرواية عندما تقف عند حدود التاريخ مقلدة لوقائعه، تفقد صفتين: صفة الرواية لأنها تحاول أن تضاهي التاريخ عبثا، وتفقد أيضا صفة التاريخ لأنها تنشأ جوهريا داخل نظام المتخيل. تخسر الجنس الذي يحددها، أي هويتها الأساسية التي تنظم بنياتها وعوالمها الداخلية.