موقف غريب ذاك الذي اتخذه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بمقاطعة الجناح الروسي في معرض الكتاب باريس، يوم الخميس 16 مارس/آذار 2018 على الرغم من أنه قضى أكثر من ثلاث ساعات يتجول بين أجنحة المعرض.
الأغرب من هذا هو أن روسيا ضيفة الشرف؟ وضيف الشرف هو اختيار من الدولة الفرنسية. كل ذلك بحجة التضامن مع الأصدقاء البريطانيين.
كيف حدث هذا من دون أن تكون هناك ردة فعل ثقافية وحضارية واسعة من المثقفين الفرنسيين وكأن ما حدث هو لا حدث؟ مع أنه مس كبير بحرية الثقافة والمثقف. معرض الكتاب ليس تظاهرة سياسية، ولكنه شيء أبعد من لك إذ يتماهى فيه الإنساني والحضاري والتاريخي. بمعنى الاسمنت الوحيد المتبقي للإنسانية لخلق رابط حقيقي بين الشعوب، في عالم كل يوم يتمزق قليلاً بسبب الحروب والمهالك المصلحية الضيقة. مرارة يوم 16 مارس كانت كبيرة أحس بها 38 كاتباً روسياً حضروا خصيصاً افتتاح المعرض.
ومعظمهم من النخب الجديدة المعارضة والمناضلة من أجل مجتمع أكثر تفتحاً وديمقراطية. ناتاليا سولجنيتسين، زوجة الكاتب الكبير سولجنيتسين الحاصل على نوبل للآداب، صاحب أرخبيل الغولاغ، قالت بمرارة: لم يقم الرئيس الفرنسي بما كان يجب عليه القيام به من واجب الضيافة، بالنسبة لفرنسا أولاً. ظننت أنه كان خارج الهيستيريا الإعلامية الغربية ضد روسيا. فكيف لفرنسا المدافعة عن حق الثقافة في التمايز، أن تخسر خصوصيتها التي دافعت عنها بشكل مستديم في اليونيسكو، وفي المواقع الثقافية العالمية، ورفضت أن تتحول الثقافة إلى مادة تجارية بين أيدي السماسرة. وفرضت على المواثيق الأوروبية تدوين هذه الخصوصية.
زيارة خفيفة للجناح الروسي يبين أن المنشورات المعروضة ليست مديحاً لا لبوتين ولا لسياسته، كيفما كانت هذه الأخيرة، ولكنها نصوص أدبية حرة، وعالية القيمة الفنية. كلنا يعرف قوة الأدب الروسي عالمياً من الكلاسيكيين حتى الحداثيين. يكفي للزائر لمعرض باريس أن يرى في الواجهة ترجمات غاليمار المحضرة بمناسبة المعرض بالخصوص Ludmila Oulitskaïa لودميلا أوتليسكايا وهي كاتبة معارضة بقوة لبوتين، ليدرك أن الجناح الروسي كان للأدب وليس لتمجيد السياسة. قالت لودميلا في ردة فعل رافضة: أنا لم أخضع لأي نظام. لم يشتريني بأية هدية، وليس له علي أي دين.
المقاطعة هي عدم اعتراف بجهودنا، وفكرنا ونضالنا. لهذا بدا موقف الرئيس من الجناح كأنه كان خارج المدار الثقافي والحضاري الواسع، وتصرف بشكل لا يختلف عن أي سياسي عادي وليس ردة فعل رئيس دولة كبيرة جعلت من الثقافة خياراً جوهرياً. تصرف مضاد للمصلحة الفرنسية نفسها وفيه نوع من الاحتقار. المثقفون والأدباء تحديداً هم الروح الإنسانية في أعالي تجلياتها. أيننا من فرانسوا ميتيران الذي جعل من الثقافة رهانه الكبير والاستراتيجي.
ومن وزير ثقافته جاك لانغ الذي جعل من الفعل الثقافي وسيلته لفرض السيادة الفرنسية عالمياً. موقف مثل الذي اتخذه ماكرون فتح طريقاً مغلوطاً لجعل الثقافي الثابت تابعاً للسياسي المتحول بحسب الحاجات والمصالح، ورهيناً له بينما ناضل المثقفون الفرنسيون عن هذه الاستقلالية أبداً. شخصيات مثل جان بول سارتر وكامو وهنري أليغ وغيرهم، كانوا في واجهة الفعل الثقافي الحر.
سارتر كتب نصه الكبير «عارنا في الجزائر» ضد المؤسسة السياسية والعسكرية. . خطأ فادح ارتكبه الرئيس الفرنسي في مقاطعته للجناح الروسي، لأن فرنسا الثقافية أكبر من هذا بكثير. لا يمكن أن تجر نحو السياسي الطارىء بهذا الشكل البائس وغير المدروس. بالخصوص أن روسيا ضيف الشرف كما أسلفنا. موقف ناتج عن رؤية قاصرة للفعل الثقافي، ودوره التاريخي في تصحيح المسارات والأوهام. لقد ناضل هذا البلد لكي تظل الثقافة خارج الصراعات السياسية وفي الواجهة لكل المصالحات الإنسانية.
خطأ جسيم لا يرتكبه رئيس دولة كبيرة كفرنسا عرفت دائماً كيف تفرق بين السياسي الطارىء والثقافي ذي الرؤية البعيدة، غير الخاضع لتوترات المؤقت. يمكننا أن نتفهم التضامن السياسي الذي أبدته فرنسا مع بريطانيا، حتى وإن أخرجها البريكسيت من دائرة الاتحاد الأوروبي، لكنها تظل جزءاً لا يتجزأ من الحلف الأطلسي، الذي يفرض تضامناً واسعاً بين أمريكا ومختلف الدول الأوروبية. المأخذ على الرئيس الفرنسي هو أنه ضحى بالحلقة الأكثر إنسانية لإثبات هذا التضامن. كان يمكن لفرنسا ممثلة في رئيسها أن تعلن عن تضامنها بأشكال أخرى بالخصوص بعد محاولة تسميم الجاسوس الروسي المزدوج على الأراضي البريطانية. يمكننا أيضاً أن نتفهم رغبة الرئيس في إظهار تضامنه اللامشروط واستعادة وحدة أوروبية مفككة أمام غطرسة أمريكية سحبت كل شيء في طريقها بمعنى المصالح الاقتصادية، لكن نتفهم بصعوبة خيار مقاطعة الجناح الروسي الذي لا موقف يبرره من الناحية الثقافية. موقف غير محسوب مثل هذا، وسياسي بامتياز، يضع كل المثقفين الروس في سلة واحدة وكأنهم أزلام للنظام الحاكم، ونعرف جيداً معاناة كاتبة معارضة مثل لودميلا أوليتسكايا التي وضعتها غاليمار والجناح الروسي، في الواجهة.
الكُتّاب هم الضمير الحي الذي لا يمكنه أن يستسلم للحلول السهلة. هناك عدد كبير من الكتّاب الروس الذين ملأوا الجناح، عاشوا حياتهم كلها في المعارضة والدفاع عن الحريات الديمقراطية، رافضين الأوليغارشية والتفرد في الحكم، محافظين على مسافة النقد الحر من النظام. كم سيكون الموقف نبيلاً وكبيراً لو مر الرئيس من هناك وناقش ضيوف فرنسا من الكتّاب الروس، الذين كانوا ينتظرونه ليبدوا وجهات نظرهم الثقافية والفكرية في ما يحدث وفي عصرهم الصعب.
الأدب الروسي صنع الذاكرة الجمعية العالمية، والأثر الفرنسي فيه كبير حينما كانت اللغة الفرنسية لغة النخبة المحظوظة في ذلك الزمن. هذا الحمام البارد الذي مس أغلب الكتّاب الروس الحاضرين، لم يحرك أبداً الروائي السياسي الروسي زخار Zakhar Prilepine صاحب رواية أرخبيل سولوفسكي، الذي قال ساخراً: «لم أنتبه إلى أن ماكرون لم يأت.
لا يهمّ. أنا أكتب نصوصاً روسية، وللكتب عمر أطول من عمر أي رئيس». كان زخار محقاً في جوهر ردة فعله. الثقافة هي الأبقى، والأدب لا عمر له. مازلنا إلى اليوم نستمتع بالحرب والسلم وآنا كارنين، والإخوة كرامازوف والأبله والجريمة والعقاب، ومعطف غوغول وبطل من هذا الزمان، والفولاذ سقيناه، وطفولتي والأم وغيرها من النصوص العظيمة التي صنعت مجد الأدب الروسي والعالمي.
*عن القدس العربي