ربما لم تفاجئ تصريحات «موسى عبدي» رئيس جمهورية أرض الصومال الكثيرين، عندما قال إنه وقع مع دولة الإمارات العربية اتفاقا لإنشاء قاعدة عسكرية هناك، وأن الإمارات ستقوم بتدريب قوات تابعة للجيش وأخرى للشرطة. وكانت الإمارات قد بدأت في العام الماضي إنشاء قاعدة على موقع بمطار مدينة بربرة في أرض الصومال، وسمح لها بالبقاء لمدة ثلاثين عاما. وتقع بربرة على بعد أقل من 300 كيلومتر إلى الجنوب من اليمن، الذي تقاتل فيه قوات إماراتية في إطار تحالف بقيادة السعودية.
ومنذ سقوط حكم سياد بري في 1992 أصبح ما يسمى «جمهورية أرض الصومال» كيانا شبه مستقل عن الصومال. الاتفاق المذكور ليس الوحيد من نوعه، بل إن هناك العديد من الاتفاقات التي استطاعت الإمارات بموجبها بسط سيطرتها على أغلب موانئ القرن الإفريقي بالإضافة لموانئ يمنية. وهذا يكشف الاستراتيجية الإماراتية للتوسع البحري، خصوصا بالقرب من منطقة باب المندب التي تعتبر ذات أهمية قصوى للكيان الإسرائيلي.
ويأتي توسع النفوذ الإماراتي متوازيا مع توسع النفوذ السعودي، في مرحلة تشهد منطقة الشرق إعادة رسم تحالفات دوله بانماط مختلفة عما كان مألوفا قبل حدوث ثورات الربيع العربي. وما يتم الحديث عنه اليوم على صعيد التوازن الاستراتيجي يختلف كثيرا عما كان قائما آنذاك. فلا يمكن بسهولة استيعاب فكرة التمدد الإماراتي بهذا الحجم والسرعة، علما أن الدولة نفسها حديثة الوجود (أعلن قيامها بعد الانسحاب البريطاني من الخليج في 1971) وليست لديها كثافة سكانية كبيرة، (ربما لا يصل عدد السكان الأصليين مليونا واحدا من البشر)، وأنها أصبحت في عداد الدول التي فتحت سجونها للنشطاء والحقوقيين. وربما الأهم من ذلك أن دولة الإمارات انتهجت سياسة خارجية مختلفة تماما عما كانت عليه طوال عهد مؤسسها ورئيسها السابق، الشيخ زايد آل نهيان». فالإمارات اليوم تحتل جزءا كبيرا من اليمن، وتهيمن على أغلب موانئ القرن الإفريقي، وتسعى لامتلاك تكنولوجيا نووية، وتهدد دولا مجاورة تعتبر نظريا حليفتها ضمن منظومة مجلس التعاون الخليجي. وبالإضافة لذلك لم يعد سرا القول بأن الإمارات أدّت دورا في التصدي لظاهرة الربيع العربي؛ فقد تدخلت عسكريا لقمع ثورة البحرين، إلى جانب السعودية، ودعمت الانقلاب العسكري في مصر ضد «الإخوان المسلمين» ورئاسة محمد مرسي. وكانت طرفا أساسيا في الحرب على اليمن، واحتلت مناطق شاسعة من أراضي ذلك البلد بما فيها ميناء عدن الاستراتيجي. كما أنها طرف أساسي في استهداف دولة قطر وتوجيه التهديدات المتواصلة لها. وكان لها دور في دعم الضابط الليبي، خليفة حفتر، وكذلك في دعم رئيس جمهورية أوكرانيا في مواجهة المعارضة المدعومة من روسيا.
من المهم قراءة هذه الحقائق في ظل الوضع العربي الراهن، الذي تغير كثيرا على صعدان شتى:
أولا: غياب عقيدة سياسية لدى أنظمة الحكم وكذلك غالبية الشعوب، مقارنة بما كان الوضع عليه منتصف القرن الماضي عندما كانت القومية العربية شعارا مشتركا بين أغلب الشعوب وأغلب النشطاء والمفكرين قبل نصف قرن، وعندما كان الشعار الإسلامي شائعا في المنطقة إلى ما قبل عشرين عاما.
ثانيا: عدم وجود قيادة عربية مرموقة تستقطب الجماهير، وتعمق لديها مشاعر الحرية والكرامة والتحرر من الاستعمار والاحتلال.
ثالثا: إن الربيع العربي كان نقطة تحول جوهرية في توازن القوى؛ فبينما كان واعدا بإعادة رسم الخريطة السياسية لصالح الشعوب، كان تحالف قوى الثورة المضادة يقظا ومستعدا لمنع ذلك، وهذا ما حصل.
رابعا: إن القوى العربية الكبرى التي كانت فاعلة في العمل العربي المشترك، تعرضت لأزمات ساهمت في تهميشها لاحقا، فأين مصر اليوم من صناعة القرار العربي والنفوذ السياسي؟ وأين الجزائر؟ وأين العراق؟ وأين سوريا؟ لقد عملت قوى الثورة المضادة لإعادة رسم الخريطة لإضعاف تلك الدول وترك المجال مفتوحا للدول غير ذات الشأن لممارسة نفوذ يفوق حجمها الحقيقي كثيرا. تم ذلك بتوافق إقليمي ودولي، وساهمت أوضاع الغرب وتداعي نفوذه في تسهيل تلك المهمة. ويمكن القول إن التدخل العسكري في العراق مرتين، رسخ لدى هذه الدول ضرورة تفادي التدخل المباشر والعودة إلى نظام الوكلاء لضمان مصالح الغرب.
وفجأة تحرك التحالف السعودي ـ الإماراتي بحماس غير مسبوق، ابتداء باجتياح البحرين في مثل هذه الأيام قبل سبعة أعوام وصولا إلى استهداف قطر. فمن كان يعتقد أن الإمارات ستتحول إلى دولة توسعية بالشكل الحالي؟ من كان يعتقد أنها ستمد نفوذها لتستولي على نصف اليمن والتحكم بميناء عدن؟ كان الرئيس السابق علي عبد الله صالح قد منح «شركة موانئ دبي العالمبة» في عام 2008 حق إدارة ميناء عدن، وموانئ أخرى، لمائة عام قادمة. لكن بعد الثورة اليمنية وخلع صالح، قرر مجلس إدارة «مؤسسة خليج عدن» إلغاء اتفاقية تأجير ميناء عدن لـ «شركة موانئ دبي العالمية». وكان وزير النقل اليمني قد طلب، عقب توليه الوزارة، من الشركة الإماراتية تعديل اتفاقية تأجير الميناء أو إلغاء الاتفاقية، التي وصفها بأنها «مجحفة بحق اليمن»، وأنها «أُبرمت في ظروف راعت المصالح السياسية أكثر من الاقتصادية».
النفوذ الإماراتي لم يتوقف هنا، بل ازداد تمددا. ففي عام 2005 وقع سلطان أحمد بن سلّيم، الرئيس التنفيذي لـ «مؤسسة الموانئ والجمارك والمنطقة الحرة» في دبي مع ياسين علمي بوح وزير المالية في جمهورية جيبوتي اتفاقية تعاون تتولى بموجبها شركة جمارك دبي، التي كان يفترض أن تستمر 21 عاما، إدارة وتطوير الأنظمة والإجراءات الإدارية والمالية لجمارك جيبوتي وتطوير العمليات الجمركية ونظام وإجراءات التفتيش. كما كان يفترض أن توفر جمارك دبي نظاما متطورا لتقنية المعلومات، إضافة إلى إقامة البرامج التدريبية لمختلف فئات الكادر الوظيفي في جمارك جيبوتي. كما وقعت الإمارات اتفاقا مع أريتريا تستخدم بموجبه ميناء ومطار عصب على البحر الأحمر لمدة 30 عاما. وفي أيار/مايو من عام 2017، تسلمت موانئ دبي العالمية إدارة ميناء «بربرة» في جمهورية أرض الصومال. وتسيطر كذلك على جزيرة سوقطرة اليمنية عند مدخل القرن الإفريقي، وكذلك ميناء مخا، وميناء المكلا.
جاء العدوان السعودي ـ الإماراتي ليفتح المجال لتوسيع ذلك النفوذ، وتوسيعه ليشمل تشكيل «جيش» خاص بالإمارات والاستحواذ على القرار السياسي خصوصا في ما يتعلق بالجنوب، والتأسيس لتفتيت اليمن مجددا.
وقد اصبح واضحا وجود منافسة شديدة بين السعودية والإمارات على النفوذ داخل اليمن؛ فبينما تقوم السعودية بإحداث الأزمات الإنسانية وارتكاب جرائم حرب ورفض وقف إطلاق النار، تحصد الإمارات الثمار. ولذلك حدثت نزاعات غير معلنة بين الطرفين، الأمر الذي دفع السعودية للبحث عن مخرج من هذه الحرب التي أصبحت عبئا ماليا وبشريا وأخلاقيا على المملكة، التي يسعى ملكها الشاب لإقناع العالم بأنه «ملك إصلاحي». وقد رشحت في الفترة الاخيرة معلومات عن مفاوضات بين السعودية وجماعة انصار الله (الحوثيين)، للتوصل إلى حل سياسي بعد أن أصبح واضحا أن السعودية تواجه هزيمة منكرة برغم تفوقها العسكري على اليمن. وأصبح واضحا أن استراتيجية الحرب فشلت، فتم التخلي عن مقولة «دعم الشرعية» التي انطلقت الحرب على أساسها، ولم يعد عبد ربه منصور هادي خيارا عمليا ضمن السياسة السعودية للحوار من أجل وقف الحرب. وقد تعرضت السعودية لضغوط شديدة من قبل التحالف الإنكلو ـ أمريكي لوقف تلك الحرب. وأمام هذه الضغوط وبلحاظ التفوق الإماراتي في تحقيق مكتسبات على الأرض اليمنية، لم يجد محمد بن سلمان أمامه سوى الإذعان وإعداد الرأي العام الذي انفق المليارات للتأثير عليه بأن الوقت قد حان لـ «شرب كأس السم»، والاستعداد لوقف العدوان. وستخرج السعودية من هذه الحرب منهكة على صعدان شتى: بشرية ومالية وإعلامية. وأيا كانت الاتفاقات التي سيتم وقف النار على أساسها، فستكون سمعة السعودية قد تراجعت كثيرا، ولن تستطيع التلويح بالخيار العسكري في مواجهة مع إيران، كما كانت تفعل. وسيظل محمد بن سلمان ومستشاروه يعضون الأصابع أسفا للخسارة العسكرية في اليمن، بينما ستخرج الإمارات دون تلك الأعباء بالإضافة لتكريس نفوذها في مناطق واسعة.
*القدس العربي