تجربه إبراهيم نصر الله الروائية، تضعه في مرتبة عليا، بين أهم الروائيين العرب. روائي يعرف جيدا مشروعه الذي تخصص فيه راصدا تاريخ فلسطين، والعرب وعصره. منحه جهده الكلي في تجربة كتابية نادرة ومميزة، تضعه في صف الكاتب المحترف، المالك لمشروع تاريخي تخييلي واسع، في كل تجربة روائية، ينجز جزئية منه تشكل في النهاية قطعة ضرورية في البازل puzzl الروائي النهائي.
هذه الممارسة التخييلية الاحترافية لا نجدها في التجربة الكتابية العربية التي يغلب عليها، بشكل شبه كلي، طابع الهواية. إبراهيم لا يكتب استجابة لوحي سري؟ الهواية، ولكن يكتب لأنه يجب عليه أن يفعل ذلك، لأنها مهنته الحياتية التي اختارها. قد تكون مخاطر هذه الخيارات الهاوية أو الاحترافية كبيرة، لكنها في النهاية خيارات ذاتية لها ما يبررها ويتحمل الكاتب تبعاتها مثل الساموراي.
رواية إبراهيم الأخيرة: حرب الكلب الثانية، تدخل ضمن الشرفات التي أصدر الكاتب منها: شرفة الهذيان، شرفة رجل الثلج، شرفة العار، شرفة الهاوية، شرفة الفردوس، وأخيرا حرب الكلب الثانية التي تثير قضايا مصيرية كبيرة في مجتمع عربي أغلق على نفسه كل أبواب الحياة والحداثة وبدأ ينزلق نحو السقوط الكلي.
مجتمع يموت يوميا بلا هوادة. يفقد أجزاءه الحية في حالة تراجيدية شبه قدرية لا يمكن تفاديها. يعيد إنتاج وسائط تخلفه القاتلة. في هذا النص يخرج إبراهيم من التاريخ جزئيا لينخرط في تخييل جديد لا تاريخي، هو بمثابة تاريخ استباقي يرتسم في الأفق بيقين لا يمكن تفاديه، يستعيد فيه حاضرا لم نعشه بعد لكنه قادم لا محالة، بضجيجه ودمه وتشرده. ضاربا عرض الحائط بكل التأطيرات الشارحة.
للقارئ أيضا حقه في التأويل والفهم. لا نعرف المسافات والحدود التي بنتظم فيها الواقع الراهن والواقع التخييلي. يحتاج الأمر طبعا إلى قارئ محترف، وربما كان ذلك خاصية كتابية في منتج إبراهيم نصر الله. تجري أحداث رواية حرب الكلب الثانية داخل قلعة حيث يتم تنظيم كل شيء، التعذيب، إنتاج الحروب وتجريب أساليب الموت والخوف. عالم مؤثث بكل وسائل التنصت من شاشات يمكنك فيها أن تؤدب المذيعة بمجرد مد يدك، وهواتف ذكية، وسيارات ذاتية القيادة لكن العقل المنظم والساهر يظل هو هو، ركيزته الجريمة وقتل المخالف وابتذال المعارض كما وقع لراشد.
مدير عام يدير القلعة، يعرف كل شيء عن كل شيء، وضباط لا يختلفون عن العامة وعن بعضهم البعض إلا في القدرة على الإبصار الدقيق وفق مقياس بومي يتردد بين بوم6 وبوم1. ويشكل الوصول إلى بوم1 حلما للجميع. القلعة هي اختزال رمزي لسلطة تكبر في الخفاء. تصنع جرائمها قبل أن تتحلل هي بدورها في عالم يتحرك بشكل آلي شبه مجنون.
داخل عالم رمزي افتراضي يذكر قليلا بصحراء التتار للإيطالي دينو بوزاتي، حيث يوميات الفجائع تصنع في الخفاء ولا نتفطن لها الا عندما يأتي الموت ضاربا عرض الحائط بكل حساباتنا السرية. كل شيء تغير جذريا، الطبيعة نفسها فقدت نظامها. النهار أصبح فجأة قصيرا، لا يتجاوز الخمس ساعات، ارتباك في نظام الفصول وانهيار منسوب انتاج الخُضَر والفواكه والحبوب. البشر أيضا تغيروا جذريا.
الثوري راشد الذي تحمّل التعذيب مقابل الدفاع عن أفكاره وقناعاته، لأنه يحمل تاريخا نضاليا كبيرا، أصبح تاجرا مهتما بالمال فقط، ودخل في مصاهرات جد معقدة مع مخططي القاعدة وعساكرها وضباطها الظاهرين والخفيين. زوجته سلام ليست إلا أخت الضباط الذي كان يعذبه وكأن شيئا لم يكن. الماضي ينتفي ويموت. الأخطر من هذا كله لم يعد راشد وحيدا فقد تعدد (الاستنساخ الذي اختاره العلماء) في أشكال وأشباه تسير على نفس الإيقاع مثل الراصد الجوي والسائق والرجل الذي يطل من الشرفة، صاحب القميص الأحمر، الذي أشعل الفتنة وحرب الكلب الثانية. كل شيء يقود راشد في النهاية نحو الطريق الذي اختير له وحُدِّد له سلفا، يعيد إنتاج التعذيب الذي كان عرضة له بلا أدنى ضمير. لم يعد ماضيه المضيء يشغله، فقد انتهى بعد أن ابتذله بأطماعه. ليس راشد في النهاية إلا ذراعا طيعة لحضرته، المدير العام، الذي سرق من البيغ بروزر القاتل، بعض ملامحه. الغريب بالنسبة لراشد المعجب بزوجته سلام أصيب أيضا بحب أختها مرام، مديرة مكتبه، وكان عليه تغييرها من خلال عملية جراحية استنساخية لتصبح نسخة طبق الأصل من سلام. وكان على راشد خوض معركة مستميتة للتخلص من شبيهه «الراصد الجوي» الذي استولى على بيته وزوجته وإبنائه ما دفع بالسلطات إلى إجبار الناس على إبراز هُوياتهم ومن لا يملكها يُقتل. وقد يبدو هذا التداخل صعبا على القارئ المتوسط، لكن من قال إن وظيفة الكاتب تذليل الصعاب أمام قارئه؟ على القارئ أن يتحول لا إلى مستهلك بائس وبلا تفكير، ولكن إلى شريك لفهم عصر شديد الصعوبة والتعقيد يهم الكاتب كما يهم القارئ. المغامرة السردية التي اختارها الكاتب من وضع ذهني أكثر منه مادي، تفرض أسئلتها بقوة على القارئ الفعلي أو الافتراضي. وهو ما يجعل «حرب الكلب الثانية» استعارة مركبة لعالم يمضي نحو الانهيار بشكل كلي. عالم تحكمه الأوساخ والقمامة. وانهيار القيمة التي انتجتها البشرية. وهذا لا يمس فقط الدول المتخلفة ومنها العالم العربي، ولكن أيضا العالم الذي يحيط بنا وتحكمه أخلاقيات الابتذال والكراهية والحروب الخطيرة لأسباب تافهة. أسباب تبدو سخيفة بسبب مقابلة كرة قدم في أمريكا الجنوبية، أو بسبب كلب كما في حرب الكلب الأولى. كل ما بحدث أمام أعيننا ليس ألا صورة لاتساخ داخلي عميق ولانهيار داخلي يسير حثيثا نحو النهايات الفجائعية. نعيش زمنا مظلما، كل الوظائف فيه تغيرت كليا ليس الإنسان فقط.
حتى سيارات الإسعاف لم اعد آلات لحفظ الحياة، ولكن للموت والاتجار. خلق الأشباه جزء من تحولات العالم الجديد الذي كلما حارب وانتصر على شبيه فاسد، جاء من هو أكثر منه فسادا، شبيهه في كل شيء، لكنه أكثر انحطاطا وبغضاء منه. الشبيه المستنسخ هو الحرب نفسها في صورها الأكثر انهيارا وتدميرا واختلاط الحابل بالنابل. لا نعلم من الأصل ومن الشبيه avatar. أين يبدأ الأصل وأين يتوقف الشبيه؟ المآلات ستكون على صورة الشبيه في أقاصي لحظات بؤسه الحياتي والفكري. وكل ما نظنه تقدما يصطدم بتخلف مدقع وانهيار حقيقي.
لا غرابة في أن ينتهي راشد إلى عميل لنظام إجرامي. قبل أن يقفل المشهد الأخير عليه بعد أن تحول إلى شخصية بعمامة في خدمة الحرب التالية، يستعد راشد لحرب الكلب الثالثة التي ستكون أكثر إبادة وتخلفا.
حرب شبيهة بالحروب الداعشية التي تمت فبركتها لتكون مدمرة نهائيا للنسيج العربي والإنساني أو ما تبقى منه « كان راشد يراقب ما يدور، مرتديا عمامته الضخمة وثوبه الأسود الذي يصل إلى منتصف ساقيه. دعك لحيته الكثيفة الطويلة التي تخفي ملامحه، وصاح بصوت رجّ المكان: ثكلتك أمك يا ابن الغبراء، ما الذي أعادك إلينا». ثم كلمة منفصلة، داخل البياض، كانت آخر شيء في الرواية: بدأت! (ص 340).
* عن القدس العربي