ربما كان مصير البشرية محكومًا دومًا بهذه الثنائية البسيطة والمعقدة في الوقت نفسه: حب/ كراهية. وقد تتصاعد الحالة إلى الأقاصي في بعض الحالات الخاصة: الهوى/الضغينة، عندما تصل الخيبة الخاصة أو العامة إلى حدود يصعب فيها التحكم والتعقل. لا شكّ في أن الحروب قامت لمصالح اقتصادية ومنافع محددة لا مكان فيها للعواطف، على الأقل في الظاهر، والاستعمارات انبنت على مخططات محددة محكومة بمنطق استغلال البلدان المستضعفة، ولم يكن فيها مكان للحب ولا للنوايا الطيبة، وقد يكون لأطماع التوسع دور في الحروب أيضا، لكن التاريخ البشري بمنتجه الحقيقي أو التخيّلي، يمنحنا الكثير من التفاصيل الصغيرة عن هذا الموضوع، التي لا نعرفها، تأسست على نفس الثنائية الحب/الكراهية. هي في النهاية ما يصنع الديكور الخلفي للصراعات الداخلية وحتى بين الأمم.
كيف سيكون حال ملك مهزوم كان عاشقا ومحبا، ومسحورا وساحرا قبل أن يصاب بهستيريا الخيانة الزوجية، فيقرر بلا كبير تفكير، أن يقتل كل امرأة يتزوجها في اليوم الموالي؟ قاتل. لولا تدخل شهرزاد في ألف ليلة وليلة، لاستمر هذا الطاغية في الجريمة وزرع الكراهية. إيفا براون، حبيبة، ثم زوجة هتلر، في آخر لحظات العمر، من يدرينا ما فعلته في قلب هتلر لدرجة أن اشتركت معه في الموت انتحارا؟ بكل غطرستها، الملكة قوسيم العثمانية جعلت من أبنائها حماة للدولة من السقوط والانهيار، لكن ذلك لم يمنع بأن تكون الكراهية هي سيدة العلاقات والدسائس. السلطة مانحة للحب في طبق، وفي الطبق الثاني والأكثر سرية، تمنح الضغائن. لم يكن ما قامت به داخل هذه الثنائية بسيطا. جاكي أو جاكلين كندي كنيدي، موضوع يستحق التأمل. كانت جاكي مؤثرة جدا في قراراته التاريخية. جاكي، الفيلم السينيمائي السيري الجديد لمخرجه پابلو لوران Pablo Larraín وبطولة الممثلة الكبيرة ناتالي بورتمان يدخل في هذا السياق. فقد صور الوضع مباشرة بعد اغتيال الرئيس كندي. بين الفيلم بوضوح كيف كانت جاكي هي صانعة المشهد الدرامي في نهاية المطاف من تحضير الجنازة حتى دفن كينيدي، حتى وضع أبنائها في المشهد العام. البشر يعيشون ويموتون وهم يبحبون ويتقاتلون داخل هذه الثنائية. خارج الشرح الكيمياوي البارد والسهل الذي يحول حالة إنسانية معقدة مثل الحب، إلى مجموعة من المعادلات الكيميائية. بين la dopamine et l’ocytocine بالخصوص في ظل الانتصارات التي تحققها النوروبيولوجيا التي تحصر الحالة العشقية وحركتها في مرحلتين، الأولى تحكمها الدوپامين التي هي مفتاح الشهوات ومنشئة الرغبة. والثانية لوسيتوسين التي توفر حالة التماهي مع المعشوق. الحب كيفما كانت تجلياته، البيولوجية أو النفسية الصعبة، هو الطاقة الإيجابية الأولى في الإنسان الحضاري والحداثي، والأعمق والأصدق. ويتعلق الأمر ههنا بأدق التفاصيل الداخلية التي تشمل كل الحواس التي نعرف، وتلك التي لا نعرفها أيضا، إذ لا يزال الإنسان شبكة من التعقيدات المدركة وغير المدركة. لهذا، المسافة بينه وبين الكراهية وربما الصغينة أيضا، تكاد لا ترى، لكنها موجودة فيه وتتربى معه منذ الطفولة. يمكن أن يحدث الانقلاب بسرعة وتتبادل الثنائيات مواقعها.
أن نكره من يعطل هذا الحب، من يسرق منا لحظاته التي نظن أنها ملكلنا وحدنا. أن نكره أيضا من نظنه أفضل منا أو أجمل أو أكثر جاذبية، مما يجعل مكاننا في الآخر مهددة بالنفي، أو مهزوزة على الأقل. أكبر الضغائن أن نكره من نحب. أي أن نضعه في الدرك الأدنى وننسى بسرعة أننا تقاسمنا معه الحلوة والمرة، لأننا شعرنا بخيانته أو تخليه عنا، بعد أن كان في الصف الأسمى الذي يضاهي النبوة والألوهية. لهذا كثيرا ما تنتهي كبريات قصص الحب داخل الدم، والتراجيديا، وكأن المآل الأمثل للحب الكبير، يكمن في نهايته وليس في مساره الجميل الذي يعد بالكثير من الفرح والطمأنينة. ليلى ماتت عشقا بقيس، فمات هو بعدها مجنونا على قبرها. روميو وجولييت ماتا عن طريق الخطأ القاتل، وكأنه لا مآل للحب العظيم إلا هذه الحالة التراجيدية من خلال سببية الإفناء والموت. تريستان وإيزول، في العصر الكلاسيكي، تعرضا لنهاية مشابهة. كان المحلول الذي شرباه مدمرا، داخل لعبة شبيهة انتهت بتريستان إلى القبر، وتلحق به إيزول لينبت على قبريهما كرمة، وشجيرة لبلاب تعانقت فروعها أبديا.
حتى الروايات العظيمة انتهت بالطريقة نفسها. شهريار كما ذكرت آنفا، تحول إلى دموي فقتل العشرات من النساء بسبب هذه الخيانة المفترضة التي حولت الحب إلى ضغينة ثم إلى جحيم، ثم إلى سلسلة من الجرائم المتتالية التي حولتها الضغينة إلى حالة عمى كلي. مدام بوفاري التي انتهت بتناول السم القاتل، عاشت حياة في الوهم بحثا عن حب غائب لم تجده في السيد بوفاري ولا حتى في حبيبها المفترض الذي لم يمنحها ما افترضته منذ تعرفها عليه. آنا كارنين انتهت تحت عجلات قطار رمت نفسها تحت عجلاته في السكة الحديدية بعد أن منحته، فخ لها عندما انصاع لخيارات أمه. وفي لوليتا نابوكوف تحول فيها العاشق المريض إلى مطارد للوليتا وصديقها قبل أن ينتهي قاتلا. حتى رواية ماركيز التراجيدية: وقائع موت معلن، انتهت بمقتل العاشق الافتراضي تحت سكينة الأخوين. كل هذه القصص نهاياتها الموت، عندما يسرق منها الحب ويتحول إلى آلة تدميرية، عواقبها غير محمودة. الموت التراجيدي تحديدا وليس الموت العادي أو الرمزي. وكأنه مقدر على الحب أن ينتهي داخل الخراب أو بين ذراعي الكراهية. لم نر قصة حب كبيرة وناجحة انتهت في الفراش الهادئ بالموت الطبيعي والحب المستدام. أليس الزواج نفسه والدخول في المنظومة الاجتماعية المقولبة، موتا رمزيا بانتهاء الشعلة الداخلية، والدخول في الآستكانة العائلية، لتصبح الحياة في النهاية شبيهة بحيوات الآخرين. هناك حواس أخرى خارج هذه القيم الجاهزة. جميع البشر والحيوانات، محكومون بحالة التملك والانفراد، فتصبح الغيرة القاتلة مثلا ردة فعل من وعلى من نحب، فتختلط بالخوف من الفقدان ورعب التخلي. لا يوجد في حياة البشر أقسى من التخلي بعد عمر طويل من الحب. في ثانية واحدة لا يصبح للمحبوب الذي أحبنا وأحببناه، أي حضور فينا. الأنانية لا تقتل الحب فقط ولكنها تخرمه من الداخل، وتقتل الإنسان أيضا.
لو آمنا بقدرات الآخر على الاختبار وأجهدنا أنفسنا بقوة على احترام عقله، لما حدثت الانفصالات المؤلمة. إذا كان هذا الحب قويا سيستمر في عمق العواصف، وإذا كان ضعيفا، سيموت ببساطة ويذهب كل واحد صوب مسلكه. كلاهما ضحية، وكلاهما معتدٍ ومعتدى عليه. كلاهما العاشق وكلاهما الكاره. التقليل من الأنانية يجعل كل شيء ممكنا بالمعنى الإيجابي. المشكلة ليست في المنغصات، فقد تكون طبيعية وتقلل من التكرار والرتابة والسكينة، ولكن في الأنانية القاتلة. هي التي تحدث الانقالابات الخطيرة في نفوس الناس. الفنون تزخر بهذه الثنائيات التي تحشر الإنسان داخلها. الحب ليس نهاية ولكنه بداية إشراق الإنسان. فكيف يحافظ عليه داخل الكراهية المبطنة في عمقه. أختم بما قاله لي يوما الشاعر المغربي والإنساني الكبير عبد اللطيف اللعبي، ونحن في السويد: العاشق الحقيقي هو من يبدع في الحب كل ليلة بشكل مختلف. الحب جهد مستديم إذا أردنا أن نحافظ عليه.
عن القدس العربي