الحديث الدائر عن صفقة عربية مع إسرائيل والذي تقوده (بلا أدنى شفافية) دول عربية كمصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة يثير الكثير من التساؤلات. وبنفس الوقت تستمر حالة المواجهة بين الشبان الفلسطينيين والقوات الإسرائيلية عبر الحواجز وحول القرى والمدن. فكل يوم جرحى وكل أسبوع شهداء، آخرها الشاب المطارد الشهيد أحمد جرار.
الغيوم الملبدة في الكيان الإسرائيلي وحوله في الدول العربية المحيطة من سيناء لسوريا ولبنان يسهل أن تتحول نحو حالة مواجهة مفتوحة، كما يمكنها أن تستمر على وتيرة مواجهات يومية بمنسوب عادي لمدد مفتوحة. الأهم أن الصفقات في ظل أجواء يطغى عليها الظلم والتوتر والتعدي لا يمكن ان تتقدم وتستقر بل بإمكانها أن تتحول للنقيض فترفع منسوب المواجهة وتؤدي لحروب واسعة النطاق. إن فرص صفقة القرن بالنجاح ضعيفة على المديين المتوسط والبعيد، لكن تحقيقها قد يكون الصاعق الذي يؤدي لمزيد من المواجهات في الإقليم العربي.
لنستعيد العملية السلمية التاريخية، إذ يلاحظ منذ كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل بأن الصفقات وأجواء السلام مع إسرائيل تنتهي بفشل وتؤدي لمزيد من الصراع والحروب. على سبيل المثال نجد بأن حرب 1982 جاءت بعد كامب ديفيد المعقود عام 1979 كما أن الانتفاضة الفلسطينية عام 1987 جاءت في ذات السياق. ونلاحظ أيضا بأن مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو الذي بدأ مباشرة بعد حرب تحرير الكويت في العام 1991 أدى للانتفاضة الفلسطينية عام 2000. في ذلك الزمن كان للولايات المتحدة نصف مليون جندي في الشرق الأوسط. وقد شارك في مؤتمر مدريد الوفد السوري والفلسطيني والأردني ووفود خليجية ومصرية وعربية، بالإضافة لوفد إسرائيل ممثلا برئيس الوزراء شامير. وكان مؤتمر مدريد امتداداً طبيعياً للشرعية الدولية بما فيها الأمم المتحدة، إذ انطلق الموقف العربي من مبدأ الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي التي تم احتلالها عام 1967 بما يتضمن قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس وحلاً لقضية اللاجئين الفلسطينيين وغيرها من المظالم. في ذلك المؤتمر كان الموقف العربي متماسكاً وكان احترامه لذاته ومنطلقاته واضح المعالم. لقد بدأ اتفاق أوسلو بالتفكك بمجرد قيام متطرف يهودي باغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحاق رابين عام 1995.
أطروحة السلام مع إسرائيل تؤدي إلى مزيد من الغرور والصلف الصهيوني. من لا يذكر كيف ردت إسرائيل على مبادرة السلام العربية التي طرحت في مؤتمر القمة العربي في بيروت في العام 2002؟ فقد قامت حينها إسرائيل بقيادة شارون باجتياح الضفة الغربية كاملة ووضع ياسر عرفات رئيس السلطة الفلسطينية تحت الحصار والإقامة الجبرية. ومع ذلك استمرت المرونة العربية تجاه إسرائيل في سنوات الانتفاضة الثانية، لكن بسبب استمرار حرب إسرائيل في جنوب لبنان في 2006 ثم حروب غزة التدميرية المتتالية منذ 2008 تغير الموقف العربي ونسى كل الناس المبادرة العربية للسلام المطروحة عام 2002.
صفقة القرن التي ينتشر الحديث عنها تعلن لنا بأنه لا مكان لدولة فلسطينية ولا حقوق في القدس بصفتها عاصمة فلسطين ولا حل لمشكلة اللاجئين. وفي صفقة القرن طرح مبهم حول سيناء وضمها لغزة، وطرح مبهم آخر حول مصير الفلسطينيين في الضفة الغربية وأراضي 1948. وفي صفقة القرن غموض كبير حول مصير الأردن الذي يتم تجاوزه في كل هذه التصورات والأطروحات. إن صفقة القرن المطروحة اليوم أقرب لعقد تسليم واستسلام أمام القوة الإسرائيلية.
وإن كان التاريخ مدرسة ننهل منها، فصفقة القرن مقدمة لحروب ومقاومة، لقد بدأت معالم تلك الحرب من خلال إعلان رئيس الولايات المتحدة بأن القدس عاصمة إسرائيل. في الجوهر لن تنجح صفقة سياسية وأمنية تهمش الشعب الفلسطيني وتستفز مكونات الأمة العربية والإسلامية في حقوقها وقيمها. لن تنجح صفقة تتنازل عن القدس وتقبل بالجدران والفصل العنصري والطرد الجماعي والفردي. لا سلام مع الظلم، ولا استقرار مع التعدي على حريات وحقوق الناس، فهذا قانون تاريخي وإنساني لا يستطيع أحد أن يغيره. مصير الصفقة مزيد من العدوانية الإسرائيلية.