أي شرق نريد؟ الشرق المصنّع الذي ابتدعته اتفاقيات سايكس بيكو وكل ما تلاها لتمزيق ما بقي واقفا بعد الانهيارات العثمانية والهزائم المتتالية، أم شرقا آخر أكثر اتساعا ونورا وثقافة وتبادلا وتنورا صنعته التجارب الثقافية والدينية، وكوّن لُحْمة قوية؟ قد يبدو ذلك حُلما صعبا، لكنه حلْمٌ بديل في عالم يتحلل باستمرار ويعاد تكوينه.
التأريخ جعل في وقت من الأوقات هذا الشرق ممكنا بقوة، وخلق حضارة تبادلية بين مختلف أطرافه، من خلال انتساب جزء كبير من العالم العربي إليها، والهند والسند وبلاد فارس وتركيا وجزء من الصين وجزء كبير من روسيا والدول التي ارتبطت بها واستقر فيها الإسلام، وأندونيسا وغيرها.
الحروب والصراعات انتهت، وانتقلت العلاقة من الديني إلى المشترك الحضاري، وبقيت الذاكرة الجمعية التي يمكنها أن تتوحد في مواجهة عالم يزداد كل يوم ضراوة وتوحشا وخطرا على الجميع.
هذا الشرق الجديد الذي يبدو مستحيلا اليوم، ممكن التكون على أمد متوسط أو طويل. ويمكن أن يعاد بعث الروح فيه من جديد وأن نراه ينشأ من خلال دول قليلة يجمع بينها المصير المشترك، قبل أن يمس البقية. طبعا هناك صعوبات جمة في عالم اليوم المحكوم بالقوميات الضيقة والمصالح والأيديولوجيات، لكنه لا حل غير هذا بالنسبة للعرب تحديدا، وهم في سقف التحلل الكُلِّي.
هذا الخيار أو الانهيار الكلي والنهاية التي أصبحت في مرمى النظر. بالعمل الفعلي والإدراك العميق للحاجات الثقافية والوجودية والمصلحية أيضا، يصبح هذا الشرق أفقا ممكنا. وليس مستحيلا أن ينتقل هذا الشرق الحضاري من اليوتوبيا إلى الحقيقة.
الشرق الكبير أو الشرق الجديد، شرق الاستعمار، الذي حاولت الإدارة الأمريكية فرضه بالقوة للمزيد من الإذلال العربي، بربط مستقبل المنطقة كلها بالإرادة الصهيونية التي تخطط لاتساع يتجاوز فلسطين على الأمد المتوسط والبعيد، بعد أن تحكمت في كل مصادر الحياة، بما في ذلك الطاقات الحيوية المائية والنفطية.
هذا سيربط المستقبل العربي كله بالإرادة الأمريكية الظالمة، وبالإرادة الإسرائيلية التي وصلت إلى سقف غطرستها في سباقها المحموم ضد الساعة، مستغلة فرصة التآكل العربي وغرقه في حروب أهلية مميتة، لتعميق برنامجها الاستيطاني، وعينها على النفط العربي، من خلال التوغل السري والعلني في المنطقة العربية، كالعراق، وكردستان، وسورية، وبعض دول الخليج، لأن إسرائيل لن تجد فترة مناسبة مثل فترة الموت العربي البطيء التي يعيشها اليوم.
إسرائيل وسندها، الصهيونية العالمية، تدركان جيدا أن الأوضاع لن تبقى على حالها أبديا، مثلما هي عليه اليوم، في ظل المتغيرات المرتقبة في المنطقة، بدخول فاعلين جدد لضرب القطبية الأحادية، كالصين وروسيا والهند وإيران، وبدرجة أقل، كوريا الشمالية أيضا. من مصلحة العرب إذا بقي لدى الحكام، حد أدنى من الوعي والتبصر بالمصلحة القومية والوطنية، العمل تُجاه شرق بديل أقرب إليهم حضاريا وثقافيا، لإعادة صياغة التأريخ والعلاقات الثقافية الجديدة والاقتصادية والمصلحية.
هناك شرق حضاري انتسب إليه العرب في حقبة من الحقب التأريخية، ووجدوا فيه مصالحهم الأساسية. المسافات التي تفصل الشرق العربي والخليج عن الهند وباكستان وإيران، وغيرها، تكاد لا تذكر إذا ما قيست بالمسافات مع أوروبا وأمريكا. هذا الشرق ليس جديدا، لأنه الشرق الأساسي الذي نبتت في حضنه الحضارة العربية الإسلامية. لا يمكن مثلا أن يظل الرابط العربي-الهندي مرتكزا على العمال الذين يشتغلون ويقدمون معارفهم وجهدهم العضلي لهذه المنطقة. يجب أن ترتقي العلاقة وتكبر وفق الحاجات الاستراتيجية والحضارية المشتركة.
عالم اليوم هو عالم مصالح. الهند فوق كونها قوة نووية واقتصادية، عالمية، فهي قوة علمية وثقافية راقية ومتحكمة في جزء كبير من المنجز العلمي العالمي، بالخصوص في علم البرمجيات. ما يمكن أن يتقاسمه العرب معها كبير وكثير. زيارة نتنياهو الهند ليست فقط زيارة حبية واقتصادية؟ ولكنها حاجة استراتيجية بعيدة المدى.
إسرائيل تدرك جيدا أن تلاقي المصالح العربية والهندية إذا تم الوعي بها وبجدواها، سينسف حتما فكرة الشرق الجديد الاستعماري، الذي يراد فرضه لحماية إسرائيل. الشيء نفسه يتعلق بإيران، فهي بلد يزن في الحسابات الدُّولية ويحتاج الأمر من العرب إلى الكثير من البراغماتية في الحسابات المصلحية الدُّولية، خارج الرؤى الدينية الضيقة التي يمكن ضبطها باحترام الخيارات الداخلية لكل دولة تُجاه تكوين تكتل حقيقي.
يضاف إلى ذلك روسيا بوصفها دولة كبيرة في تناقض مصلحي جذري مع الولايات المتحدة، وتركيا كفاعل تأريخي في المنطقة العربية إذ لا يمكن الاستغناء عنها، إن هي تخلصت من الزعامة المريضة، والتخلي عن رعاية الإسلام السياسي والذهاب بالدين نحو أفق حضاري أوسع ليشكل لحمة ثقافية وتأريخية بين الشعوب. هذا التجمع العربي. التركي، الهندي، الباكستاني، الروسي، الذي يبدو مستحيلا اليوم، يمكن أن يتحول إلى ضرورة تأريخية، في المستقبل القريب، لمواجهة غطرسة أمريكية بلا حدود، جشعة ولا إنسانية، برئاسة شخصية عنصرية لا يربطها شيء إنساني بالعالم الذي يحيط بها، أنزلت أمريكا العظيمة إلى الحضيض. الاعتماد على الحسابات الأمريكية اليوم، والإسرائيلية هو مقتل لما بقي واقفا من العالم العربي.
الخلافات المصلحية الحادة بين مختلف الدول المشكلة لهذا القطب الافتراضي، مع أمريكا، تجعله قريبا من التشكل مهما بدا ذلك صعبا ومستحيلا.
المشترك المصلحي والحضاري، والرقعة المتقاربة التي لا تفصل بينها إلا حدود مائية تكاد مسافاتها لا تذكر، يجعل من هذا الشرق الجديد بالمعنى الشرقي الحقيقي، حاجة اقتصادية وعسكرية ووجودية. وإلا لا خيار بالنسبة للعرب تحديدا إلا القبول بالشرق الكبير، الشرق الجديد الذي يذيبهم ويفنيهم ويجير خيراتهم الطاقية لخدمة اليانكي الجديد، العنصري بامتياز.
*القدس العربي