الكثير من المخطوطات العربية ضاعت، أو تعرضت للتلف. وسجل أمامها: ضائعة أو مفقودة. وهي عادة الباحثين لإثبات حالة الإخفاق والفشل، التي كثيرا ما تصيبهم بعد رحلة طويلة، عندما يستسلمون لقدر التسليم بالأمر الواقع.
لكن هذه الظاهرة كثيرا ما ارتبطت مع النصوص القديمة، بوصف أن العرب مجموعة بشرية اعتمدت على الشفوية في نقل تأريخها، وكان للقرآن وجمعه وترتيبه دور كبير في نقل المعرفة والثقافة عن طريق المكتوب. بهذا المعنى؛ فأمر المكتوب لا يتعدى القرن السابع الميلادي حيث القرآن وفكرة جمعه. لكن؛ أن تضيع الكتابات في زمن التدوين والنشر والتوزيع، فهذا يبدو غريبا إن لم يكن من فعل فاعل. بالخصوص مع ما حصل لعلم ثقافي يعرف معنى حفظ الذاكرة والتدوين.
لهذا؛ فحظ مخطوطات مَيْ زيادة لم يكن سيئا، فقد تم العثور على الكثير من نصوصها المفقودة، وتمت طباعتها وإلحاقها بأعمالها الأخرى. لكن مخطوطات أخرى كتبتها في ظروف معينة، لا نعرف عنها شيئا ذا قيمة، إلا القليل الذي تسرب عبر كتب أخرى، مثل «في بيتي اللبناني»، «مذكراتي»، و«ليالي العصفورية». طبعا من دون نسيان منجزها باللغة الفرنسية طي النسيان كما صرحت بذلك آخر صديقاتها، الشاعرة الفرانكفونية إيمي خير التي ماتت هي أيضا في عزلة كلّية، في حوار أجراه معها الأستاذ عبد الغني حسن بعد وفاة مي زيادة، ونشره في كتابه: مي، أديبة الشرق والعروبة.
أُدخِلتْ مي زيادة، بشكل ظالم، من طرف ابن عمّها جوزيف زيادة، إلى مستشفى الأمراض العقلية، العصفورية، وبقيت هناك بالقوة مدة تجاوزت السبعة أشهر، قبل أن يتم نقلها إلى مستشفى نيقولا رابيز، بالجامعة الأمريكية، لترتاح قليلا بعد أن تم الكشف عن خيوط اللعبة. ذاقت مي في العصفورية ألوان التعذيب الجسدي كلها والإطعام بالقوة، من أجل فك إضرابها عن الأكل، لكنها رفضت بشجاعة حتى أثبتت صحة عقلها وأخرجت من دائرة المجانين. فقد اتهمت بالجنون وتم الحجر عليها، وعلى أموالها كلها. حتى أن بعض ممتلكاتها العقارية بيعت، وكان عليها، إن أرادت أن تعيش، أن تساير الظلم والجنون المسلطين عليها. وراء هذا الاعتداء كما ذكر أفراد من عائلتها المباشرة، بالخصوص ابن عمها الدكتور الطبيب جوزيف زيادة الذي سلمته أمرها طواعية، بسبب حالة الكآبة التي كانت تعاني منها، ليقودها من القاهرة حيث كانت تقيم بحجة الاستراحة والاستجمام، إلى بيروت، بعد وفاة من شكلوا حائطها الدفاعي من المجتمع الغابي الذي كانت تحس أنها تعيش فيه، والدها وجبران وأمها.
وبعد فترة وجيزة اتضحت أركان الجريمة، إذ حجزها جوزيف في بيته في بيروت، تلتقي يوميا بباحث انكليزي مختص في الآداب الانجلوسكسونية، للتخفيف من عزلتها. اتضح بعدها أن العالِم المزيف لم يكن إلا مدير العصفورية الذي ظل يدرس ردود فعلها عندما صرح له جوزيف بجنونها الأكيد، إذ أصبحت خطرا عائليا على الكبار والصغار. وعندما أضربت عن الأكل لإخلاء سبيلها. كانت سيارة العصفورية في انتظارها، فَقُيِّدت بجاكيت المجانين، واقتيدت أمام نظر الجميع إلى مستشفى المجانين. لعبت الصحافة المتواطئة دورا مدمرا لها. إذ بدل أن تقف مع قضيتها، عملت على تثبيت تهمة الجنون. وجدت مي نفسها تحت رحمتها.
زكت جنونها ودفعت بالكثير من المتعاطفين معها إلى التسليم بالأمر الواقع، وكأن صفحتها امتلأت وكتابها أغلق نهائيا على نهاية فجائعية. من هنا بدأ الصراع حول قضيتها. وجدت في النهاية ضالتها في الكتابة، إذ من دونها كانت ستنتهي إلى الجنون الحقيقي المؤكد. دونت في يومياتها: ليالي العصفورية، كل تفاصيلها اليومية التي عاشتها، والعذاب الذي ظلت تتعرض له. شكلت الليالي (ليالي العصفورية) شهادتها ضد الظلم الذي تعرضت له. للأسف تم نسيان؟ هذا النص لعوامل كثيرة أنست الذاكرة الجمعية وجوده لأسباب كثيرة منها فضائحية الليالي على المستوى العائلي، كما ذكرت مي نفسها ذلك لصديقها والمدافع عنها باستماتة أمين الريحاني، إذ وضعت آل زيادة في الواجهة، وفي دائرة الاتهام كعائلة ظالمة معتدية مصابة بالطمع والجشع. بل إجرامية يُفترض أن يقتص القضاء منها. غياب النص يخفي الجريمة في النهاية.
كثيرا ما أعلنت خوفها من ابن عمها مِنْ أن يُسمّمها بشر يصل حد التخلص منها. فكانت تتفادى الأكل عنده حتى أصبح وزنها 28 كيلو. ولا تأكل إلا ما يأكله الآخرون أمامها. ترفض كل ما يطبخ لها بشكل خصوصي. عندما سألها طبيب العصفورية عن سبب الإضراب عن الأكل، لم تتردد في القول إنها تخاف من أن تُسمّم في غفلة منها، لأن بعض أهلها يريدون قتلها والاستحواذ نهائيا على ممتلكاتها . طبعا يمكن الميل نحو السهولة والرد الاختزالي على تهم ميّ، وتفسير ذلك بحالة الرهاب أو العصاب أو حتى الانفصام والجنون، وهي تهم سهلة في ظل قلق مي من محيطها العائلي، لكن أيضا استغلال هشاشتها، والدفع بها نحو الباش كاتب لكتابة رسالة تقر فيها بإعطاء توكيل كامل لجوزيف ابن عمها للتصرف في كل ممتلكاتها، قبل أن يحول ذلك إلى حجر قضائي في لبنان ومصر، حقيقي ولا تشوبه أية شائبة وهو جريمة موصوفة. ما الذي يمنع جوزيف من الذهاب بعيدا نحو أقاصي الجريمة بالخصوص بعدما علم بفحوى ليالي العصفورية، ورفض دعوة العروى الوثقى لحضور محاضرة مي في الجامعة الأمريكية التي برأتها من أي جنون. حتى وهي في مصر ظل الخوف يعتريها من انتقام أهلها منها. ورغبتهم في تسميمها.
ما قالته للعقاد عن البنايات والأشباح التي كانت تراها ليلا، ليس بعيدا عن هذه الفرضية، للزج بها نحو جنون أكيد. في الأقل هذا ما ظلت تتصوره وتشعر بسلطانه عليها؟ هل هي مجرد أوهام؟ أم لذلك ما يبرره؟ موتها الفجائي بعد أن حُرِّرت من قيد الجنون، يطرح الكثير من الأسئلة أيضا. الكثير من التصريحات والفرضيات لا تهمل هذا الاحتمال.
بعض تفاصيل التقرير الطبي غير واضحة، ومرتبكة في خلاصاتها؟ هل سبب الوفاة سكتة قلبية؟ مرض السل؟ أم تسمم غدائي، إذ يمكن أن يكون قد وُضِع سُمٌ في أكلها من طرف أحد الشوام المكلفين بذلك، الذين كانوا يملؤون القاهرة، والذين كانت تخافهم كثيرا. متأكد من أن عائلة جوزيف تملك الكثير من الأسرار؟ أين ذهبت مخطوطة ليالي العصفورية؟ احتمال أن تكون مي قد مزقتها في لحظة غضب. فرضية ممكنة. المعروف عن مي زيادة أنها مزقت وأحرقت الكثير من نصوصها، كما أعلنت هي نفسها في العديد من المرات. ويحتمل أن تكون ليالي العصفورية قد تعرضت لشيء قريب من هذا. لكن هناك فرضية ثانية. كانت مي تحت مجهر العائلة طمعا في مالها وخوفا من الكشف عن السر في الليالي. وتكون بذلك المخطوطة قد سرقت منها. الدليل في ذلك أن مخطوطة الشعلة الزرقاء التي سلمتها عائلة جوزيف للباحثة سلمى لحفارالكزبري لتحقيقها مع سهيل بشروني، ونشرها كانت من المخطوطات الأثيرة على نفسها، وتحفظها كما تحفظ الأشياء الثمينة.
كيف وصلت إلى عائلة جوزيف؟ إذا لم يكن قد سرقها منها هو نفسه أو أحد وكلائه في الجريمة؟ فما الذي يمنعه من تدبير كل الحيل للاستيلاء على مخطوطة فضحت تعامله معها بشكل خاص؟ ويقال في رواية أخرى لا تبدو أنها مؤسسة كثيرا، إن مي، عندما انتهت من إنجاز نص يوميات ليالي العصفورية، خبأته عند آخر صديقاتها القريبات منها، الشاعرة الفرانكفونية إيمي خير؟ وأن النص لايزال حيا إلى اليوم، ستأتي مصادفة من المصادفات ويصبح في متناول العاملين في النقد والثقافة الذين، برغم جهودهم، لم يفلحوا في العثور عليه، وضمه إلى أعمالها الكاملة. لِمَ صمتت إيمي عن هذا؟ هل خافت؟ يعطي هذا كله كأننا في فيلم بوليسي كانت ضحيته مي زيادة.
هل هناك من هددها؟ بالخصوص إن هذه العلاقة معروفة عند الخواص والعوام. قوة نص ليالي العصفورية هو أنه سِيَري، مباشر، أي يتكلم عن حياة الكاتبة وظروف حجزها بشكل عفوي ومباشر. جزء نابض من مرحلة ربما كانت السبب في عزلتها النهائية قبل موتها.
هناك نصوص أخرى تلت خروجها من العصفورية، لم تبق منها إلا العناوين، وغابت كوجود مادي فعلي. عندما غادرت مي العصفورية، بعد تدخلات كثيرة، من شخصيات تأريخية ودينية وأدبية وإعلامية وقضائية و عسكرية كبيرة ومعروفة في وقتها، لم تكن لديها أية رغبة في البقاء في لبنان، وكأن مرحلة ما من حياتها انتهت. قبل أن تغادر إلى مصر، ألقت في قاعة الويست هول الكبيرة، بالجامعة الأمريكية، محاضرة قيمة لم تتحدث فيها أبدا عن أزمتها كما كان متوقعا من طرف الحاضرين، فقد تخطتها نهائيا وركزت اهتمامها على دور الكاتب اليوم، وما عليه القيام به، في ظل حرب عالمية مدمرة كانت ترتسم في الآفاق.
محاضرة كانت رهانها الأساسي لمحاولة العودة إلى الساحة الأدبية وإثبات أنها بعقل سليم. وانتهى فصل الجنون الكاذب نهائيا، لكن الجرح السري استمر في النزف. عادت بعدها إلى القاهرة لتتوفى في 1941 في حالة عليا من الهشاشة والخوف من المبهم والعزلة، ودفنت معها يومياتها: ليالي العصفورية. مأساة كاتبة. لا تشبهها إلا مأساة النحاتة الفرنسية كامي كلوديل التي دفع بها أخوها وأمها وصديقها النحات الفرنسي الكبير رودان، نحو مستشفى المجانين، وبقيت كامي هناك أكثر نصف عمرها، حتى وفاتها.
يبقى سر ليالي العصفورية معلقا في الفراغ. وهو نص سيكشف عن حقيقة هشاشة مي، ولكن أيضا جرأتها في قول الحقيقة عارية حتى ولو اضطرت إلى دفع ثمنها غاليا؟ الموت في عزلة أو الاعتداء والقتل؟
* عن القدس العريي