سؤال مركزي يواجهنا كلّما تعلّق الأمر بالرواية التأريخية. سؤال لا يمكن تفاديه. هل معرفة المساحات الميدانية بشكل ملموس من خلال زيارة الأمكنة، واعتماد المادة التأريخية، يفيدان الرواية التأريخية في مخيالها الذي يعتمد على الحقيقة، لا لتثبيتها، ولكن للدفع بها نحو مزيد من التخييل؟ بمعنى هل تشكل الحقيقة التأريخية الموضوعية ضرورة كتابية وإبداعية، إذا افترضنا أن هناك حقيقة تأريخية ثابتة، الأرضية الأساسية لتنشيط المتخيل بقوة أكثر، وعدم الاقتصار على الحقيقة التي تجعل من الكاتب مؤرخًا فاشلًا، لا هو بالأديب في أدواته الجمالية، ولا هو بالمؤرخ الذي يعتمد وسائط علمية لتفسير الظواهر.
العلاقة بين الكاتب والمادة التأريخية تنبني بشكل مختلف وأكثر جدوى، من خلال فعل الحرية، وليس استرجاع التأريخ ولكن السيطرة على المساحات التأريخية التي تريد الرواية اختبارها وارتيادها أدبيا وتحويلها إلى مادة روائية. لا يمكن للروائي أن يتحرك في الفراغ، ولكن داخل مساحة يعرفها جيدا، بل هو سيدها الذي يشعر بنبضها العميق أكثر من المؤرخ.
منذ والتر سكوت، مرورا بألكسندر دوما إلى جرجي زيدان، ظلت الرواية التأريخية تشتغل في أفقها التأريخي الرومانسي المفترض. أي أن التأريخ هو فعل بشري أنجز سلفا وانتهى، وما علينا إلا الاستفادة منه بإدراجه تربويا في النص الروائي الذي يتحول إلى وسيط فني بين المادة التأريخية والقارئ المتلقي. لا وظيفة للنوع إلا خدمة نوع آخر هو التأريخ.
الروائي الفرنسي، باتريك رامبو وهو يكتب ثلاثيته عن نابليون بونابارت (المعركة، كان الثلج يسقط، والغائب)، والروائي جلبير سينوي وهو يكتب سيرة علي بن سينا أو محمد علي، لا يختـــلفان كثيرا في نسف قدسية المادة التأريخية.
التأريخ ليس مقصودا لذاته. فهو لا يتجاوز كونه مادة أولية. فقد كان الروائيان حُرّين إلى درجة كبيرة في منجزهما الروائي التأريخي. صحيح أنهما اعتمدا على مادة تأريخية فيها الكثير من الحقيقة، والتتبع السيري، لكن هذه الحقيقة ظلت نسبية جدا.
باتريك رامبو يقول إنه لا توجد سيرة تأريخية بالمعنى المطلق والصافي ولكن توجد مادة أولية، للكاتب الحق، كل الحق في العمل عليها بحرية وتحريكها وفق عملية التخييل الحر. وإعادة تشكيلها بناء على الحاجة الإبداعية والأدبية. الذي يكتب عن نابليون ليس مشروطا بالبقاء في دائرة تأريخ الشخصية بشكل ضيق، إذ يستطيع ان يخلق الطبائع كما يشاء. ومع ذلك باتريك رامو الذي يشتغل على هاجس حرية الكاتب، من حقه طبعا أن يضع الحرية على راس الانشغالات في الرواية، وقد مارس ذلك بقوة وهو يكتب ثلاثيته عن نابليون.
تحول نابليون الى مطية أدبية أكثر منه حقيقة موضوعية، لقراءة عصر قلق وخطير، بدأت بصعود الامبراطورية وانتهت بسقوطها. ليس التأريخ الثابت والمتفق عليه هو هاجس باتريك رامبو، ولكن التأريخ الذي يعيد الكاتب تركيبه بقوة من نسيجه النصي الذي لا يتنكر لا للأدب ولا للتأريخ في أفقه الشامل والعام الذي تخترقه الرواية بقوة. هو العامل الحاسم في العملية الإبداعية.
الشيء نفسه حدث مع جيلبير سينوي وهو يتعامل مع المادة التأريخية العربية والإسلامية التي شكلت مركز اهتمامه في أغلب رواياته. فقد اختار في روايته: ابن سينا أو الطريق إلى أصفهان، أحد أتباع الشيخ الرئيس، أبو عبيدة الجوزاني ليروي حياة ابن سينا الغنية بالهزات والصدمات والأفراح والخيبات. النص عبارة عن سيرة مروية وفق رؤية شخصية تأريخية وروائية اختارها الكاتب لتأدية الوظيفة الأدبية والتخييلية أيضا. كلاهما يؤكد أن العملية الإبداعية تحتاج إلى قدر واسع من الحرية، خارج الحسابات السياسوية والأيديولوجية التي تجير التأريخ للمصالح الصغيرة، وتقهر الإبداعية التي تشكل الحجر الأساس في عملية التشكيل الروائي. نجد الحرية نفسها متجلية بشكل واضح في ثلاثية جيلبير سينوي الأخيرة: نفَس الياسمين، صرخة الحجارة وأحياء القمر الخمسة، حيث يستعيد، وبشكل حر، تأريخ الشرق الأوسط برمته بثقافته الواسعة وحرائقه وحروبه، وانهياراته.
لا غرابة في هذه الخيارات لأن الكاتب غير مجبر على إعادة المادة التأريخية وإن توفرت بشكل ملاحظ في الرواية التأريخية. للكاتب الحق كل الحق في أن يترك لخياله فسحة حقيقية للحرية، من دون نسيان المؤثرات المباشرة. الارتباط بالمكان وبالمادة التأريخية قد يحرم النص الروائي من جوهره، كونه رواية وليس تأريخا. صحيح أن المادة التأريخية، وزيارة الأمكنة، والتشبع بها لتأثيث الرواية أكثر، مهمة جدا إذ يمكنها أن تدخِل الرواية في دوائر الأزمنة الماضية التي انتهت كوجود وبقيت رائحتها عالقة بالحيطان. فإذا كان تلمس المكان وتحسسه يحد من عملية التخييل، فالتعرف المباشر عليه يدفع بحواس الشم والبصر والسمع واللمس إلى الاستيقاظ بقوة والعمل بشكل جماعي لإشباع الرواية ببقايا التأريخ وعلاماته المتبقية. اشتغال كل الحواس باتجاه منجز روائي مميز، يدفع بالخيال الى مداه الكلي ويعطي للأشياء أشكالا وملابس وحياة. الحواس يمكنها أن تفتح مساحات تعبيرية وتخييلية واسعة. لهذا يتعمق اليوم النقاش حول الرواية التاريخية، بوصفها مساحة جديدة لقول التأريخ وفق الخيارات الإبداعية والتخييلية التي تتحدد من خلالها المصائر البشرية في لحظة تأريخية محددة علينا ان نفهمها ونعيد تركيبها وفق مقتضيات الرواية إذ مماثلة الشخصيات التأريخية بالشخصيات المتخيلة روائيا، لكل واحدة دورها وحضورها، الذي يشكل اليوم مساحة مهمة لا يمكن الاستهانة بها مطلقا في هذا النوع من الكتابة الروائية الإشكالي جدا. ومهما كان حضور التأريخ في النص، لن تكون الرواية التأريخية تأريخا أبدا وإلا ستخسر الرواية تسميتها ومشروعها، وتتحول إلى نص فج يقول بشكل خطأ ما يقوله التأريخ بشكل أفضل
*القدس العربي