في مثل هذه الأيام قبل سبع سنوات تفجرت في بلدان عربية ثورات ما بات يعرف باسم «الربيع العربي». وهو المصطلح المغلوط، الذي أصبح من قبيل الخطأ الشائع، نتيجة لخطأ في الترجمة، حيث أطلقت الصحافة الغربية على الأحداث التي اندلعت نهاية عام 2010 مصطلح Arab Spring أي «الانتفاضة العربية»، أسوة بـPrague Spring، وهي انتفاضة الشعب في تشيكوسلوفاكيا السابقة التي بدأت في الخامس من يناير علم 1968 للمطالبة بالمزيد من حرية التعبير والصحافة والتنقل، ومنح بعض الصلاحيات اللامركزية.
ترجمة الكلمة الإنكليزية spring التي تعني الربيع وتعني أيضاً الانتفاضة أو الوثبة إلى «ربيع» (وهو أحد معاني الكلمة)، مع أن بداية الانتفاضات العربية والتشيكوسلوفاكية كانت في الشتاء (ديسمبر في تونس، ويناير في تشكوسلوفاكيا)، وليس الربيع. وكما شابت «الربيع العربي» بعض الأخطاء الاصطلاحية والمفاهيمية، فقد كان هذا الربيع مصحوباً بسلسلة من عدم التوقعات التي رافقت اندلاعه في تونس أولاً، ثم مباغتته لبلدان أخرى كانت أنظمتها ترى أنها تختلف عن تونس. وما زلت أتذكر دعم وسائل إعلام النظام السوري لثوار يناير في مصر، ثم عندما بدأت مظاهرات درعا رددت وسائل إعلام النظام السوري أن سوريا ليست مصر، وهو ما قالته وسائل إعلام النظام المصري آنذاك، عن أن مصر ليست تونس، ليصل الأمر إلى أن يقول الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح إن اليمن مختلفة عن الكل.
ومن سلسلة المفاجآت التي صاحبت «الانتفاضة العربية» أو «الربيع العربي» أنها تحولت من الاحتجاجات السلمية إلى العمل المسلح، بفعل عدة عوامل، كان في مقدمتها اشتغال الأنظمة حينها على «عسكرة الانتفاضة»، الأمر الذي أعطى تلك الأنظمة المبررات الكافية بالنسبة لها لسحق تلك الانتفاضات بقوة جيوش ضخمة، وآلة عسكرية جبارة. وكما لم تكن بدايات ما نطلق عليه تجوزاً «الربيع العربي» متوقعة فإن المآلات لم تكن كذلك متوقعة. وهذا أمر طبيعي يرافق الثورات الشعبية التي لا تكون لها قيادة موحدة، ولا خطط واضحة لبناء نظام جديد بعد إسقاط النظام، الذي كان هدفاً جوهرياً وشعاراً امتد من تونس إلى اليمن، وعلى طول فترات التظاهرات والمسيرات التي امتدت لشهور طويلة قبل أن تتحول إلى صراع مسلح امتد لقرابة سبع سنوات عجاف في بعض بلدان الربيع العربي.
وفِي الحديث عن عسكرة الربيع العربي، لا يمكن إغفال القوى الدولية والإقليمية التي وجدت فرصتها في تلك العسكرة، والتي أجادت الاستثمار في بنك الدم العربي المنسفح في العراق واليمن وسوريا وليبيا ومصر، حيث تقاطعت وتعارضت المصالح الدولية والإقليمية مع تحول الربيع العربي إلى ما يشبه الحرب الأهلية في بعض هذه البلدان. ومع تفجر الصراع المسلح أطل المارد الطائفي من قمقمه، واستدعي تاريخاً من الصراع السني- الشيعي، وحضرت كربلاء بكل تداعياتها السياقية والتاريخية، واستعر الجدل الطائفي إعلامياً، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وغابت الأهداف الأصلية، والشعارات المرفوعة إبان التظاهرات السلمية لتحل محلها شعارات وصرخات طائفية، غذتها بشكل كبير التدخلات الإيرانية في شؤون الدول العربية، حيث استطاعت إيران أن تحرف بوصلة الصراع عن أهدافه، لتنفذ من خلاله إلى تحقيق الأجندة الطائفية المتمثّلة في إقامة ما أطلق عليه ملك الأردن قبل سنوات «الهلال الشيعي»، وهو ما يتكشف عن كونه هلالاً «قومياً فارسياً» عوض كونه دينياً بصبغة إسلامية.
وكما حاولت النخب السياسية والمعارضة في بلدان الربيع العربي ركوب موجة هذا الربيع داخل البلدان المعنية، فقد حاولت القوى الدولية والإقليمية الاستفادة من ذلك الربيع على حساب طموحات ملايين المتظاهرين العرب الذين خرجوا رافعين شعارات تدعو إلى الحرية والعدالة والمساواة والنظام والقانون تحت مظلة الديمقراطية، وعبر وسيلة إسقاط النظام.
واليوم ونحن ننظر إلى الخراب الذي حل ببلدان الربيع، قد يتبادر إلى الذهن أن أنقاض حلب على سبيل المثال، يمكن أن تدفع السوريين إلى العودة مجدداً إلى ديكتاتورية النظام الطائفي المتستر بشعارات قومية، كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن تحميل شباب الربيع العربي مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع. غير أن نظرة فاحصة للمشهد تؤكد أن الدمار الحاصل لن يحول دون العودة للمطالبة بالحقوق الأساسية التي طالب بها الشباب العربي قبل سبع سنوات، كما أنهم لم يكونوا بالطبع مسؤولين مسؤولية مباشرة عما آلت إليه الأمور، قدر ما كانت الأنظمة ذاتها مسؤولة عن عسكرة الثورات السلمية، ليسهل في ما بعد التعامل معها بعد وصمها بتهم كثيرة تأتي تهمة الإرهاب في مقدمتها.
مهما يكن من أمر فإن سبع سنوات ليست بالوقت الطويل لتقييم- سلباً أو إيجاباً- نتائج انتفاضات 2011 الممتدة والمتواصلة بأشكال مختلفة وبشعارات متفاوتة حتى هذه اللحظة، إذ أن سبع سنوات لا تعد وقتاً طويلاً في تواريخ التحولات الكبرى للأمم والشعوب، وهو الأمر الذي يجعل المراقب يجزم بأن شعوب هذه المنطقة من العالم لا تزال في حالة من «الصيرورة والتحول» الذي يمكن – وفقاً له – النظر إلى سبع سنوات مضت على أساس أنها مرحلة من مراحل التحول الاجتماعي والسياسي، وأن نهاية أية مرحلة من مراحل التحول ليست إلا بداية لمرحلة جديدة، في سلسلة من التحولات الكبيرة التي تمر بها شعوب المنطقة. الشيء المؤكد أن المنطقة ما بعد 2011 هي بكل تأكيد منطقة مختلفة، ولن تعود لتكون هي ذاتها منطقة ما قبل 2011، وهو ما يعني أن الأنظمة السياسية ستكون مختلفة، وأن الجمهور كذلك سيختلف، ولو بعد حين. أعتقد أن الأنظمة ستكون إزاء واجب استخلاص العبر من الأحداث الماضية، كما أن الذين ثاروا عليها سيتحتم عليهم مراجعة أساليب الأداء، وإعادة النظر في تقديراتهم لنتائج هذا الأداء.
وإذا ما نظرنا إلى الصراع اليوم على أساس أنه – في أحد جوانبه – ضرب من العلاقة المتوترة بين الحاكم والمحكوم، وأنه دليل اختلال واهتراء «العقد الاجتماعي» الذي ينظم تلك العلاقة، إذا ما قررنا ذلك فإننا يمكن أن نقرر بأن إصلاح الخلل في هذا العقد الاجتماعي هو مسؤولية مشتركة بين طرفي هذا العقد، الذي يبدو مختلاً بشكل يميل لصالح الحاكم على حساب المحكوم. وإصلاح هذا الخلل لا بد أن يأخذ شكل جهود مركبة يتداخل فيها الثقافي والديني، الاقتصادي والمعيشي، السياسي والاجتماعي، وهو الأمر الذي يجعل المنطقة أمام مسؤولية بدء عملية إصلاح واسعة في منظومة العلاقات المختلة، والمفاهيم المغلوطة، والمصالح المتضاربة.
وما لم يتم إصلاح تلك المنظومات، فإن المنطقة لن تستقر على حال، وستكون على موعد مع مواسم أخرى ودورات عنف لن تنتهي إلا بموجب «عقد اجتماع» جديد يكون الحاكم بموجبه موظفاً عند الشعب وخادماً لطموحاته وليس العكس. وهو الأمر الذي يمكن أن يلخص بأحقية شعوب المنطقة في اختيار حكامها بأسلوب ديمقراطي وعبر آلية الانتخابات الحرة والشفافة، ضمن منظومة من الرقابة المؤطرة في دولة مدنية يحكمها القانون الذي يتحاكم على أساسه الجميع حكاماً ومحكومين.
ومتى ما وصلت المنطقة إلى ذلك المآل، فإن عاقبة «السبع العجاف» يمكن أن تكون: «عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون» على اعتبار انفتاح مدلولات «العام» على حقبة زمنية ممتدة وليس سنة واحدة.
*عن القدس العربي