سنة تنتهي وتعقبها أخرى، ثم أخرى، ثم أُخَرٌ ولا شيء يزيل الغمامة التي سوّدت الأفق منذ سنوات عديدة، والوضع العربي على حاله. ماذا تحمل لنا سنة 2018، سؤال مشروع وطبيعي بالنسبة لأي كائن عاقل حي. أكاد أقول لا شيء في الأفق، وأن دار لقمان ستظل على حالها في السنة الجديدة إذ لا توجد أية علامة تزرع بعض الأمل في المستقبل.
لا توجد في النهاية أي متغيِّر ولو صغير يسمح بفتح أشرعة الأمل قليلا. كل الأشياء تضاءلت وضاقت وربما ماتت، إلّا العنف، فقد أصبح لازمة مستمرة في نخرها عميقا للمجتمع العربي. الأكثر فداحة هو أن مساحاته تتسع كل يوم أكثر، ما يوفر لنا، في كل ثانية، تبريرا صافيا، على أن ما ينتظر المجتمع العربي في السنوات المقبلة، سيكون مدمرا وشديد القسوة إذا استمرت الأوضاع على حالها.
تتعاقب السنوات من دون أن نتفطن أنها تُسرق من أعمارنا بسرعة غريبة وقوية، والعنف في العالم العربي في أقاصيه المدمرة. يتزايد وكأنه سرطان أصيبت كل خلاياه بالجنون. كل جهة من الجهات المتصارعة أو المتقاتلة، تسحب الحق نحوها وكأنها وحدها من يصنع الحق ويؤمن به.
حتى أصبح ذلك ثقافة يومية تنشئ مبرراتها المصاحبة لها. الممارسات الخاضعة لمنطق الأفراد أو الجماعات المغلقة على يقينها حولت مع الزمن هذا العنف إلى ثقافة حتمية لفرض نموذج ما للتحول المجتمعي في غياب كلي لكل إمكانية حوارية. فما معنى إذا ثقافة العنف؟ هل هي العنف بكل بساطة في أفق التنظير والاشتغال عليه كظاهرة مجتمعية معقدة؟ أم هي عدم تقبل الآخر واعتبار الذات الوحيدة القادرة على إنتاج الحياة ومقوماتها الصحيحة.
أليست هي إرادتنا في أن يكون الآخر شبيهنا في كل شيء، محصلته في النهاية ليس إصلاح المجتمع ووضعه في المسالك الأصح، ولكن إيقاظ الخلافات والأحقاد الدفينة سواء كانت دينية أو عرقية إثنية أو لغوية أيضا. الإرادة في أن يكون الآخر نحن في أفكاره ولغته واثنيته ودينه، بمقاييسنا الثقافية واعتباراتنا الدينية، فلا يعني هذا شيئا آخر سوى التسلط والجبروت والدكتاتورية. بدل أن نرى أنفسنا في مرايا التأريخ والعصر، نفترض أنفسنا النموذج الذي يجب اتباعه لأنه الأسلم والأفضل والأنقى؟ الأمر الذي يذكرنا بنقاوة أخرى هي أقرب إلى النازية.
وكل من خرج عن المسطرة التي وضعناها وافترضناها ذهنيا أنها الأفضل للأفراد والجماعات والأمة أيضا، يجب أن يُحارب ويُسلط عليه العنف الذي يستحق. عندما نقرأ خرائط العنف، سنكتشف أننا لم نعد حتى قادرين على إعادة النظر في مقاييسنا ذاتها التي بنينا عليها أحكامنا ومساطرنا أبدا، مع أنها ليست بالضرورة مقاييس صحيحة وهو ما يسمى في العرف العام بالنقد الذاتي l’autocritique. لا وجود لشيء اسمه النقد الذاتي في ثقافتنا. إذ من دون المرور عبر هذه القنوات التي قد تكون صعبة، سيبدو كل ما يختلف عن طروحاتنا، إذا كانت لدينا طروحات، ملتبسا وخاطئا، وينقصه الإحساس بإمكانية الصواب والخطأ، وأن الثقافة الإنسانية بنيت جوهريا على النسبية، ما نقوله يحتمل دوما الخطأ والصواب، وما يقوله الآخر يخضع للمنطق نفسه. وتزداد الأحقاد والكراهيات المختلفة على الاختلاف، بقدر ما يتسع تكبر معه العقليات الأحادية التي لا ترى في الثقافة الإنسانية المختلفة إلا مرايا عاكسة وإلا فلا قيمة لها. بين المالك للقوة بما في ذلك المؤسسات الإعلامية الصانعة للرأي العام، والذي لا يملك إلا رأيه، علاقة غير متكافئة القصد من ورائها ليس المحاورة ولكن الاستسلام والإذعان.
للأسف يبدو العالم العربي اليوم كأنه أمة لا علاقة لها بالتاريخ، على الصعيدين الفردي والجماعي. الحاكم لا يستفيد من معطيات العصر ومجتمعه، ولم يستفد إلى اليوم من سالفيه التأريخيين. لم يستفد من هزائمه وانتكاساته، لأنه لم يقرأها، ولم ينتقدها بقوة وصرامة، وغير مستعد لذلك. القراءة النقدية الذاتية والجماعية هي وحدها العنصر القادر على تجديد الفكر والسير به عميقا إلى الأمام، والتغيير من وضعيات الأمم. حتى العنف لم يقرأ قراءة تأريخية لفهمه وترميزه.
ما الفرق بين ما حدث لحكام الفترة الأموية والعباسية والتمزيق، الذي لحق بهم من دق أعناق، وسمل عيون، وقطع الأيادي.. الخ. إذ لم تعد الخلافة مسألة دينية ولكن سياسية متعلقة بالسيطرة على السلطة. وبين ما حدث لصدام، القذافي، وصالح رئيس وغيرهم؟ وكأن التأريخ ليس درسا يستفيد منه السابقون واللاحقون. وأن عنف اليوم سيولد عنفا أقسى وأشرس وأكثر تدميرا لاحقا إذا لم تتم السيطرة بالعقلنة والدرس العميق. هذا التغييب للقراءة الفاعلة والمنقذة أيضا، يتم في ظل أمية مستشرية عربيا لا قوة اليوم قادرة على السيطرة عليها في ظل الحروب الأهلية الطاحنة وتلك المضادة للأهالي، وفي ظل غياب كبير، فجوة متعاظمة، للقراءة المتبصرة للتأريخ.
فأصبحت المزالق والاختلالات والتسرع والتحول إلى إطفائيين، هي الحلول المتوفرة. لأن الاستماع للآخر وتفادي العنف والسقوط في الحلول السهلة يعني بالضرورة تنازلا ما في لحظة من اللحظات، للحفاظ على السير الطبيعي للمجتمعات العربية. فكل ما يحيط بها يظهر طبقات العنف المبطنة النائمة في العمق والتي تراكمت وتعاظمت من دون قراءتها حتى أصبح من شبه المستحيل قراءتها وفهمها. لا يوجد أي اجتهاد حقيقي باتجاهها.
ما يحدث اليوم هو مجرد علامات أولية لمسار خطير ومدمر لكل الوحدات والكيانات التي تأسست في المئة سنة الأخيرة وربما أقدم من هذا التأريخ. تأمل بسيط لما يجري من حولنا عربيا وعالميا يجعلنا نصدر هذا الحكم بأن الآتي أظلم، وأننا؟ إن بقينا على حالنا كما اليوم، لن نجد من يشتري نفطنا ولا حتى من يبيعنا قطرة ماء، ولا يهمه إن مات رُبعنا أو ثُلثنا أو نِصفنا، أو حتى كُلنا. العربي في المزادات البشرية لا يساوي الكثير للأسف.
فقد سرقت منه روحه إذ استلت الأنظمة الديكتاتورية المنتشرة كليا على مستوى الخريطة العربية، منه حقه وتأريخه وثقافته وإنسانيته، وجعلته لا شيء، ثم رمت به في تيه الصحارى وطلبت منه أن يعيش عصره.
*عن القدس العربي