تفقد الحالة العربية كل يوم جانباً من قواعد اللعبة السياسية التي تنظم أخلاقيات الاختلاف والعلاقة بين النخب بأنواعها وبين القادة والناس وبين الدول مع بعضها البعض.
لقد فقدت الحالة العربية توازنها بسبب ممارستها للسياسة بلا أنسنة وحقوق وبلا شراكة وتقبل لمبادئ التداول على السلطة. لنتمعن مثلا باستقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري من السعودية والأجواء التي أحاطت بالأمر، ولنعرج قليلا على قضية الفريق أحمد شفيق ومنعه من السفر من دولة الإمارات.
أليست هذه أحداثا غريبة عن قواعد الإقليم وعلى الأخص إقليم الخليج المعروف باتزانه السياسي؟ ربما لو لم يقم الفريق شفيق بإصدار بيانه عبر سكايب لانتهى به الأمر غير قادر على السفر والتحرك من مكان لآخر! وفي المملكة العربية السعودية أدى اعتقال رجال الدين السعوديين، ثم المثقفين وكبار الأمراء والمتنفذين لتعزيز حالة تغير لكل قواعد اللعبة السياسية.
وتمثل حرب اليمن بكل تعقيداتها وانتهاكاتها ثم حصار قطر جانبا آخر من سقوط قواعد اللعبة الخليجية المتعارف عليها منذ زمن بعيد.
من جهة أخرى إن دور «بلاك ووتر» في الإقليم دليل آخر على طبيعة الأزمة التي يدخل فيها الإقليم؟ ربما يقع في الزمن القريب استعادة لبعض من القواعد، لكن ما تم الإخلال به من قيم وعلاقات وثقة لن يسهل استعادته في المدى المنظور. حتى أثر سقوط كل هذه القواعد على النمو الاقتصادي الإقليمي سنجد له أكثر من انعكاس وتعبير. فالمناخ الاستثماري كما أن تكاليف التمويل ستكون أكثر صعوبة.
ومن قواعد اللعبة القديمة في الإقليم العربي التدرج وبناء الإجماع والتشاور، تلك عادات قديمة متعارف عليها تبدو اهتزت الآن بالكامل. فمن غير المألوف على سبيل المثال، ومهما كانت المبررات والمسببات، جمع هذا العدد من رجال أعمال وأمراء وأبناء عم وأقرباء من أسرة حاكمة من قبل أحد أبنائها في فندق خمسة نجوم واتهامهم بالفساد ثم مساومتهم على أموالهم بلا محاكمات شفافة وقضاء مستقل. تبدو القصة من نسج الخيال، بل يبدو الحدث استمرارا للسيريالية التي عرفتها منطقتنا في السنوات القليلة الماضية.
إن سجن رجال دين وشخصيات ثقافية دينية إصلاحية في دولة اعتادت على ترابط الدين بالمجتمع منذ الساعات الأولى لتأسيسها هو أيضا جزء من انهيار القواعد. إن فك عرى الترابط التاريخي مع الإسلام بهذا الشكل السريع، ودون حوار علني ونقاش حول الممكن وغير الممكن فيه الكثير من هدم لقواعد صار لها عقود تمثل الأساس السياسي للمملكة العربية السعودية.
ويمكن القول إن السياسات الجديدة تجاه إسرائيل والعلاقة الأعمق مع اليمين الشعبوي والصهيوني في لندن وواشنطن هو الآخر جزء من القواعد التي تسقط. كل هذا يؤسس لحالة من الخوف لن تؤدي للتنمية أو الاتزان. ألا يخلق كل هذا فراغا كبيرا؟ الوقت وحده سيقول لنا الكثير عما يقع.
إن غياب القواعد بين الأنظمة وضمن الأنظمة انتقل للمعارضات. فالمعارضات في جلها أما في السجون وإما في البراري والصحاري والمدن غير المسيطر عليها تخطط لعنف بلا حدود.
ليس مستغربا أن يبرز داعش في إقليمنا. فهذا النمط من المعارضة الرافض للتفاوض والذي لا يلتزم بالحد الأدنى من القواعد المنطقية هي الوجه الآخر للنظام السياسي العربي الذي يزداد تمردا على قواعد اللعبة التي صنعها في السابق، وكلما ازداد النظام العربي تمردا على نفسه ارتفعت أصوات تنادي ببناء قواعد واضحة مستمدة من القيم والأخلاق أو من الدين ومن التجربة الإنسانية. لقد أرسى النظام السياسي العربي قواعد سلبية للتعامل مع المعتقلين في السجون تتضمن التعذيب والانتهاك والمصادرة، وهو يتمادى فيها اليوم لتصل لقطاعات أوسع من الناس، بل إنها تصيب الجميع بلا استثناء، فلم يعد في المنطقة أحد محصنا أو محميا أكان من النخبة أم من الناس.
فهل يكون كل هذا مقدمة لعودة الوعي للإقليم ولنشوء مدرسة تسعى لبناء قواعد شفافة تشمل كل المجتمع وكل قادته؟ وهل بالإمكان بناء قواعد جديدة بلا فتح المساحة السياسية والنقدية والثقافية وخلق ضمانات تضمن قضاء مستقلا وفصلا حقيقيا بين السلطات في منطقة الخليج كما وفي العالم العربي.
في واقع بلا قواعد لن يستطيع أحد توقع سلوك المنافسين وشكل الاختلاف وحدوده. وهذا سبب كافٍ لاستمرار الأزمات بل ولصناعتها عند كل منعطف. لقد دخل عالمنا مرحلة الفراغ الكبير منذ زمن وهو مازال في عين العاصفة.
*نقلا عن الوطن القطرية