ليس من الصعب أن تؤدي الحروب والمخاسر الناتجة عنها لثورات خاصة إن ارتبط ذلك مع حالة من الظلم في مجتمع مليء بالفوارق الطبقية الكبرى والبطالة. الثورة أمر ممكن، لكن ككل الأحداث الكبرى يصعب التنبؤ بتوقيتها وطبيعة العوامل التي تفجرها. فالثورة تتطلب عناصر إضافية كانفصال القادة عن الواقع المجتمعي ووضعهم لأولويات لا تمت بصلة للحاجات الأساسية للطبقات الشعبية. هذا تماما ما تم مع شاه إيران عندما تبنى أولويات أدت لإرهاق الميزانية على كل صعيد. وتقع الثورات في مجتمعات حرمت من التعبير ووضعت تحت ضغوط السلطوية والقمع. وبينما لا تتطلب الأنظمة القوية الكثير من القمع بحق مجتمعها.
إلا أن الأنظمة التي تعاني من أزمة شرعية وتفكك ذاتي تجنح نحو القمع كرد على تآكل شرعيتها أمام جمهور يزداد جرأة في تعبيره عن نفسه. الثورة أمر طبيعي في التاريخ، وقد حدثت بصفتها نتاج طموحات وآمال بين شعوب ونخب غاضبة على الأوضاع. ويعلمنا التاريخ بأن الثورات وقعت في حالات كثيرة في مجتمعات مأزومة بعد تحسن ملموس في الأوضاع الاقتصادية استمر لسنوات أعقبه تراجع مفاجئ في الاقتصاد نتج عن سوء إدارة وفساد. حينها تكون الثورة نتاج سقوط الثقة النهائية بين النظام والشارع.
لا يشترط أن تكون الثورات عنيفة، فالثورات مدارس وأنواع، والتاريخ الإنساني في العقود القليلة الماضية قدم لنا الثورة العنيفة بصفتها الشاملة المؤدية لتغير متكامل في النظام السياسي والاجتماعي بل والاقتصادي كالثورة الفرنسية والروسية والصينية، وحتى الإيرانية، لكنه قدم لنا نماذج لثورات سلمية أقل راديكالية كالتشيكية والتشيكوسلافية والجنوب افريقية. الثورة السلمية على الطريقة الجنوب أفريقية سماها المفكر جورج لاوسون 2004 الثورة المتفاوض عليها، أي الثورة التي تصل لمرحلة يتطلب نجاحها الإتفاق بين ممثلين عن الطرفين الأساسيين ( بواقي النظام) بالإضافة لأجنحة الثورة، وهذا يقع عندما يقتنع كل طرف بأن إنتصاره المطلق غير ممكن، وبأن التفاوض على شروط الانتقال أفضل من الإنتظار لحصد المخاسر. بالنسبة للمفكر لاوسون وقع هذا في ثورة جنوب أفريقيا وفي التشيلي وتشيكوسلوفاكيا. أما في الحالة العربية فالثورة التونسية هي الأقرب للثورات المتفاوض عليها، فقد وقعت عمليات التغير بين النخب وبين الشارع في ظل أقل خسائر في الارواح، ففي تونس سقط النظام القديم، لكن ما تبقى منه وما هو قائم من تيارات وشرائح نجح في الإتفاق على صيغة انتقال.
إن رفض الأوضاع الراهنة والتململ منها في ظل الشعور بالغرق في بحر من التناقضات والفساد صفة مشتركة لسكان البلدان العربية. فالأنظمة في البلدان العربية مدمنه على ممارسة سياسة استثناء وتهميش وهضم حقوق تجاه قطاعات هامة من الناس. لكن الأنظمة عاجزة بنفس الوقت عن الانتقال أو إيجاد طريق لإيقاف الفساد في ظل إنحيازها المرضي لنخب سياسية واقتصادية نتجت عن الإحتكار السياسي ولم تنتج عن اليات سوق سياسي واقتصادي حر. الجديد أن شعوب الإقليم العربي لم تعد قابلة بدونيتها السياسة والاقتصادية والاجتماعية السابقة، وهذه صفة تجعل الإقليم العربي مهيأ لخيارات غير مرأية الان. الجمهور الهادئ في الإقليم العربي هو الأقرب للبركان الخامد الذي يبحث عن دور وتغير للمعادلة.
بين الطرق المختلفة كطريق الثورة العنيفة الكلاسيكية وطريق العنف المفتوح( الإرهاب) وطريق القبول بالوضع الراهن السلبي، تبحث الشعوب العربية عن طريق رابع ينقلها من فقر السياسة وتفاهة موضوعاتها عبثية معاركها. طريق الشعوب يخشى تكرار النماذج التي أدت لحروب أهلية ونزاعات شاملة يتدخل فيها القريب والبعيد والدول الكبرى والصغرى. لهذا تبرز في هذه المراحل مدارس تطرح نقاشا نقديا لكل قرار وسياسة وكل اقتصاد ونظام سياسي. تبدو مقدمات الثورة العربية القادمة عملية بحث وتأمل بل وتأطير للشروط التي تؤسس لحياة مختلفة للعرب عن تلك التي صنعها الاستبداد. شروط الاستقرار الجديد ستتطلب تغيرات أكبر من كل ما يطرحه قادة الدول، فلن يروي تعطش الإقليم للنهوض أي من سياسات التسكين الراهنة.