من سوريا للعراق ومن ليبيا لليمن ومع أزمة الخليج والحصار وارتجاج السياسات الأميركية يتمايل الوضع العربي بين آفاق متناقضة، فالحروب استعرت وفي حالات كسوريا تبدو الحرب سائرة نحو التهدئة دون التوصل لحلول سياسية جادة، وكأن سوريا تسعى لغلق جرح بلا مداواة. في سوريا حقق النظام بفضل روسيا وإيران وبفضل سياسة العنف المدمرة عودة لمناطق وسيطرة في مناطق جغرافية دون أن يعني ذلك تحقيق تسوية ومصالحة تتعامل مع المسببات الحقيقية للثورة. إن ما يؤجج تناقضات العالم العربي برمته يعتمد على وضع عربي مجتمعاته بلا أحزاب ودوله وأنظمته بلا مساءلة وحياته السياسية بلا مضمون.
إن الفارق بين التهدئة والحل السياسي كبير، فبإمكان تهدئة أن تقع بلا حل سياسي، لكن ذلك سيعيد إنتاج الاحتقان ويؤجج باتجاه التمرد. وينطبق هذا الوضع على جميع الدول العربية التي تعيش ضغوطا مرتبطة بإصلاح واقعها وإشراك مجتمعها وتحديد صلاحيات قادتها. إن ما مورس للآن من حلول أمنية عربية تضمنت في جانب رئيسي استخداما للجيوش في غير محلها لمواجهة متظاهرين حلموا بإصلاحات وحياة سياسية حرة لن يؤدي لبناء استقرار عربي جديد. فالاستقرار يتطلب تسويات وتوافقات تستوعب حاجة الشباب للكرامة وتعطش المجتمع للمشاركة وضرورة التعامل الرسمي مع البطالة والفساد والاحتكار الذي يغطى العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه. الاستقرار العربي القائم على الغلبة سينتج نقيضه وسيؤدي لدول تسير في طريق هو بين التمرد والدول الفاشلة.
النظام العربي مازال يعتقد بأن سبب ثورات العالم العربي يعود لعدم اجتثاثها للمعارضات الخجولة قبل ثورات الربيع، وبأن الذي حرك الثورات عوامل خارجية.
مازال النظام العربي يعتقد بأن مطالب الإصلاح لا علاقة لها بالنظام العربي والحاجة لتطويره. لهذا تضغط أنظمة النظام العربي التقليدي بشده باتجاه التسليم بواقع سياسي مفرغ من السياسة والحريات والعدالة. لقد استنتجت عدة دول عربية رئيسية كمصر والإمارات والمملكة العربية السعودية وغيرها من الدول العربية بأن التيار الإسلامي والتيارات ذات المنحى الأكثر تركيزا على حقوق الإنسان تمثل الخطر الأول على نظامها وذلك بسبب امتلاك هذه القوى لقاعدة شعبية مؤثرة بإمكانها أن تؤثر في المعادلات السياسية. وعوضا عن بناء التوازن وإشراك هذه القوى وجعل الاتفاق على قواعد سياسية جديدة فرصة لتحسين واقع البلدان العربية والسعي لإعادة تنميتها ينتشر الاجتثاث في طول البلاد العربية وعرضها.
الاجتثاث سياسة تتميز بالكثير من التهويل الإعلامي واختلاق أحداث في ظل غياب الحقيقة. إن السعي لتصفية التيارات ذات العمق الشعبي يؤدي لخلق فراغات لن يستطيع النظام العربي تعبئتها، كما يؤدي الاجتثاث لتراجع معدلات التنمية وينتج مزيدا من التحديات السياسية بما فيها العنف. وهذا يجعل الدول العربية معرضة للمفاجآت. فالاجتثاث والقمع يخلق نقيضه المدمر.
ومن الصعب التعميم على كل أطراف النظام العربي، فهناك في المغرب تجربة تشارك فيها قوى شعبية مؤثرة، وفي تونس تجربة أخرى تسمح بوصول تيارات شعبية عبر انتخابات شعبية لمواقع الحكومة والسلطة التنفيذية. هذه التجارب العربية ينقصها الكثير لتتطور نحو تمثيل أكثر اتزانا وشراكة أكثر وضوحا.
لقد مارس النظام العربي منذ خمسينيات القرن العشرين الاجتثاث وراء الآخر، بل لم يبق تيار في العالم العربي لم يتعرض للتصفية (البعث، القوميين، اليساريين، الإسلاميين، الاشتراكيين والحقوقيين وغيرهم) وقد أدى ذلك لاستنزاف العرب ودولهم سياسيا واقتصاديا وإنسانيا. لقد منع الاجتثاث العرب من المراكمة والبناء كما دفع الكثير من كفاءاتهم للهرب نحو دول تتمتع بحريات أفضل وقوانين عادلة. الاجتثاث العربي الراهن يقع في مجتمعات عربية أكثر تعليما ووعيا بحقوقها ودورها، وهذا يجعلها أكثر معرفة بطرق مقاومة الاجتثاث بأنواعه. الشعوب العربية تعرف بحسها بأنها تستحق أفضل في مجال المعاملة والاقتصاد المتوازن والعدالة والحريات. الاجتثاث في زمن العولمة وضعف الدولة الوطنية وتآكل وظائفها التقليدية يدفع بزخم نحو مفاجآت جديدة.