نشأت الدولة الحديثة في الغرب كضرورة للإنسان، فمعها انتظم الاقتصاد وتطورت السياسات تجاه التعليم والعمل والأمن والبنى التحتية والتجارة والعلاقة مع الدول المحيطة. الدولة الحديثة وبجذورها التاريخية السابقة للقرن التاسع عشر نظمت الدخول والخروج من أراضيها وسعت لحماية ذاتها ومواطنيها ومجتمعها. ذات الدولة الحديثة الغربية انتشرت بواسطة الاستعمار والسطوة. لقد أصبح كل العالم سلسلة من دول ذات سيادة ضمن حدود جغرافية محددة. لكن وبنفس الوقت وقعت حالة تضاد بين الإنسان والدولة.
فالثورة الفرنسية ورؤيتها للعدالة والمساواة، والثورة الروسية وإسقاطها للحكم القيصري، أو الإيرانية وإسقاط حكم الشاه، ثم الثورات الديمقراطية التي انتشرت في مراحل مختلفة من الجزء الأخير من القرن العشرين، صارعت من أجل الحرية ضد القيود والاستبداد الذي تفرضه الدولة. الكثير من هذه الحركات حقق نجاحا، وبعضها أعاد القيود، لكن الصراع من أجل الحقوق والحرية استمر. الدولة الضرورة هي بنفس الوقت عبء على الإنسان والمجتمع، لأنها تعكس سيطرة فئة ونخب على فئات، كما وتفرض سيطرة طبقة أو تحالف من شرائح على الجيش والمؤسسات الفاعلة. فبإمكان الدولة أن تكون غريبة عن مجتمعها، وغريبة عن أغلبية السكان، عندما تقوم على الغلبة والقوة والتعسف، كما وبإمكانها أن تكون جزءا من المجتمع عندما تقوم على ميزان دقيق مبني على العدالة والتشارك. الدولة ليست وعاء بريئا.
الدولة سفينة هائلة وقوة كبيرة تصنع الأزمات عندما تسيطر عليها نخب تشعر بالخوف من المجتمع والمحيط. الدولة الخائفة من المستقبل بسبب نخب تفتقد للثقة تتحول، إن توفرت لها القدرات، لدولة مغامرة صانعة للأزمات والحروب، ومنتجة للقساوة. لنأخذ مثلا صعود الفاشية في إيطاليا، وصعود النازية في ألمانيا، والتي حولت كلا من الدولتين لخدمة نموذج ارتبط بعقول قادتها. ففي الحالين تحكم بالنازية والفاشية الخوف من الآخر. من جهة أخرى يرتبط صعود ترامب في الولايات المتحدة بالخوف المنتشر بين قطاعات من الأميركيين البيض من الآخر، أكان لاتينيا أم مسلما أم ملونا. لحسن حظ العالم أن الولايات المتحدة تمتلك مؤسسات قوية، ولديها مجتمع وأفراد ووسائل إعلام محصنة بقوانين تحمى الحقوق. فلولا المؤسسات الأميركية الفاعلة، بما فيها المجتمع المدني، لصنع ترامب بالأميركيين ما تصنعه أنظمة العالم الثالث، وبالطبع أنظمة العالم العربي بشعوبها ونقادها.
لقد تطور عبر التاريخ منظور لحقوق الفرد والمجتمع يهدف لحماية الناس من جبروت الدولة وظلمها وتحولاتها. فالفارق بين الدول التي تتحكم بمجتمعات لا يمتلك أفرادها حقوق المواطنة الحقة والدول التي تمتلك الضمانات الدستورية كبير، ويصبح هذا الفارق أشد وطأة عندما يسيطر على الدولة تيار مغامر، وعندما يبرز في صفوف الدولة زعيم لديه حس بالعظمة، واستعداد للتسرع بسبب الخوف من الاختلاف، أو بسبب الصراع على السلطة أو بسبب وهم. في الدولة الديكتاتورية، أو الدولة التي تحكم بلا توازنات، وبلا عرف، وبلا حد أدنى من الرأي والرأي الآخر تصبح الدولة كائنا مدمرا للذات وللمجتمع. وهو كائن بطبيعته صانع للعنف.
إن القوى المستقلة عن الدولة في الداخل (ضمن حدود الدولة) والخارج (خارج حدود الدولة) في ازدياد وانتشار، فمصادر المعرفة المختلفة والوعي الحقوقي والأنشطة الاقتصادية العالمية والمحلية، والهويات والمبادئ والأيدولوجيات، تعزز دورا أقل تأثيرا للدولة. إن الوعي بأن الدولة صانعة للحروب والاضطهاد والعنف والإرهاب والفقر وتلوث البيئة هو أحد مكونات نمو وانتشار المجتمع المدنى المحلي، كما والعالمي. إن المعرفة في المجتمعات العربية الناتجة عن تفرد الدولة ولعبها لدور يحد من تطور المجتمع وصل لمراحل متقدمة كان الربيع العربي في 2011 أحد تجلياتها. إن قيام الدولة بصناعة القمع والتسلط والأزمات والحروب يؤكد بأن الدولة، خاصة في العالم العربي، سائرة نحو أزمات جديدة.
الوطن القطرية