يعود العقل بوصفه ناظما للممارسة البشرية ومحددًا لها، من جديد متحولًا إلى مركز اهتمام دائم. لا تطور ولا تغيّر من دون عقلانية حيّة فعّالة. المشكلة في العالم العربي اليوم لا تخرج عن هذا الانشغال الدائم والخطير. ليست في أي شيء آخر، ولكن في العقل العربي النائم والمسترخي أبدا، مكتفيا بإعادة إنتاج نفسه باستمرار وفق رؤية بسيطة يتحكم فيها الاستهلاك.
من بين تمظهرات تخلف هذا العقل، الرقابة والمصادرة والمنع. نفهم جيدا أن يُمنع كتاب، أو مقالة، أو مجلة، لشيء ما قد لا يتناسب سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا، أو أن الرقيب قرر أن هذه المادة أو تلك ستضر بالشعب أو بأجزائه الهشة، لكن أن يظل الكتاب ممنوعا قرابة القرن، وصاحبه مات وتحول إلى رميم، والظرفية التي أنتجته،انتهت، والذين أمروا بالمنع أو قاوموه قضائيا، انتفوا كلهم من هذه الدنيا، بينا بقي المنع مستمرا كالوباء إلى وقت قريب.
لم يُرفع أبدا بشكل رسمي إلى اليوم، مثل سجين تحول مع الزمن إلى علامة لا معنى لها، أو مجرد رقم بليد لا يحيل إلى إنسان يموت كل يوم قليلا، نُسِيَ في زنزانته إلى يوم موته وعثر عليه بالمصادفة الغريبة عمال السجن وهم ينظفون المكان، حفنة من العظام. كيف نسمي هذا بغير كلمة الجهل التي لا تكفي لنعت هذه الحالة؟ قد تكون الصورة استعارية، لا تبتعد كثيرا عن الحقيقة. هذا بالضبط ما حدث لكتاب طه حسين في «الشعر الجاهلي» الذي نشره صاحبه في 1926. وتحت الضغوطات المتكررة، عوضه بعد المنع، بكتاب شبيه هو في الأدب الجاهلي. هو نفسه الكتاب الأول بعد أن نزع منه المقدمة المنهجية المبنية على الشك الديكارتي وعوضها بمقدمة عامة بلا روح مطلقا، كأنها فقط استجابة لطلب جاءه من المؤسسة الدينية التي كانت ولا تزال تزن الكثير. في المقدمة الأولى هناك نقد لاذع للمؤسسة التعليمية التي اعتمدت على تقديس الحفظ والتكرار، في غياب عقل يفكر وينظم الأشياء بذكاء.
وظل الكتاب الثاني في الأدب الجاهلي، هو المقبول لأنه بلا روح، بلا عقل يفكر للتقدم وتخطي المعضلات. يتحرك بين المدارس،حتى أنسى القراء الكتاب الأول نهائيا، وكـأنه لم يوجد أبدا. مع أنه أحرج العقلانية العربية ووضعها في سياق مواجهتها لنفسها ويقينها الذي حاول طه حسين تهديمه، بوصفه معطلا للتفكير. وكلما ذُكرت مؤلفات طه حسين، كثيرا ما نزع منها كتابه في الشعرالجاهلي.
هناك قصدية معلنة أو مخاتلة. هذا ما حدث في الكتاب المدرسي في الكثير من البلدان العربية. وظل الكتاب ممنوعا من 1926، تاريخ صدوره لأول مرة إلى 1996 عندما أفرج عنه الكاتب الباحث الكبير غالي شكري، رحمه الله، عندما خصص له عددا مميزا من مجلة القاهرة، التي كان يشرف عليها، وأعاد طباعته في المجلة مع الملف القضائي والسجالي الذي صاحبه. وبيّن الملف إلى أي حد كان القضاء المصري كبيرا وحياديا، وعظيما، وكم كان الظلم قاسيا على طه حسين الذي اضطر إلى مختلف التبريرات التي لم يكن في حاجة إليها مطلقا ما دام قد اختار مسلك العقل. حتى الأسرار العسكرية الأكثر خطورة والانقلابات والاغتيالات، لا تحجز كل هذه المدة.عمرها المتوسط خمسون سنة، بعدها يصبح بإمكان المؤرخين التعرف على تفاصيلها السرية، ودراستها بمسافة مقبولة وتصحيح التاريخ. فما هو هذا الخطر على الأمة العربية والإسلامية الذي كان يشكله كتاب في الشعر الجاهلي على الناس، وعلى الأجيال المتعاقبة منذ عشرينيات القرن الماضي، إلى تسعينياته، سوى تخلّف يتنامى بوتيرة مخيفة ليصبح هو القاعدة على حساب العقل، والجهد الذهني والتفكير للخروج من دائرة التخلف القاهرة؟ أليس هذا علامة من علامات الانهيار العظيم الذي يمس العالم العربي اليوم، في الصميم؟ فكل العناصر البسيطة ليست إلا حلقات صغيرة نتيجتها ما يحصل على أراضينا وبشكل مفجع. التخلف الذهني والجهل لا يأكل البشر فقط، لكنه يدفن في عمق البيضة، كل الحاجات الفكرية التي يفرضها الزمن المعاش.
لهذا لم يشكل الكتاب في النهاية أي قطيعة فعلية. فقد منعته الأيادي القاتلة من أن يحدث ذلك، لتحوله إلى كتاب كغيره من الكتب العامة، بعد أن نزعت منه روحه. هل أعيد الاعتبار يوما لهذا الكتاب، في الشعر الجاهلي؟ أي الاعتراف بقيمته؟ أبدا. بل إن طه حسين نفسه سقط في ما حاربه، وعاد إلى الخط المستقيم الذي حاد عنه قليلا في لحظة الفورة الحداثية، وتراجع معها لينتهي في ظلال الفكر المحافظ والتقليدي الذي انطلق منه في الأزهر كيفما كان نقده لهذا الأخير، ولم تحدث ثورة الأزهر الكبرى المنتظرة لأن المؤسسة كانت مؤهلة لذلك بعد أن اخترقتها الحداثة داخليا، بقوة.
مات، بل تهالك العقل الذي فتحه طه حسين وغيره، بأسئلته الخطيرة والحيوية. ولم يخرج علي عبدالرازق وغيره أيضا عن هذا المآل. واستمر، بل انتصر الفكر المحافظ، الغارق في يقينه، والخائف من الآخر ومن ثقافته، ومن حداثته وتقدمه، والمنتمي للآخرة أكثر من انتمائه للحياة، في مساراته المعدة سلفا، ليصبح اليوم هو المسلك الوحيد الذي يفرض إتباعه، بل واعتباره الوسيلة الوحيدة للخروج من دائرة التخلف التي يعيد إنتاجها فيشكل دورة مغلـــقة، حتى ولو كان ذلك بتغييب العقل . ما يعني مستقبلا المزيد من الانهيارات في الأفق، والتكلس القاتل، وإعادة إنتاج الموت البطيء للثقافة والفكر والإنسان.
لا حداثة حقيقية من دون استعادة العقل السجين الذي يحتاج إلى تحريره من اليقينيات القاتلة والمتكررة. المشكلة الكبرى أن انتصار التخلف جعل من الحق باطلا، ومن الباطل حقا. لا نستغرب إذا وصلنا في زماننا إلى اللاعقلانية بامتياز، في كل مجالاتنا الحياتية، الحداثة خيار قاس. الخيار يحتاج إلى فهم الضرورة.
لو قرأنا أدبيات الحركات المتطرفة، لاكتشفنا أن هذا النظام المعادي بقوة للعقل، هو جزء من صيرورة تاريخية لم تحسم مسألة العقل وبتر المتخلف فيها أو الجزء الذي يدفع إلى التقهقر. يشكل طه حسين، في هذا السياق علامة مهمة لهذه الخسارة الكبيرة التي لا يمكن إدراكها.
*القدس العربي