شاهدت منذ يومين الأستاذ جمال خاشقجي على التلفزة متحدثا من منفاه الجديد في الولايات المتحدة الأميركية، كما وقرأت مقاله في الواشنطن بوست منذ أيام والذي أوضح ملابسات خروجه من المملكة العربية السعودية لأنه منع من الكتابة والتعبير عبر جميع الوسائل الإعلامية منذ نوفمبر 2016. فالمنع عن الكتابة والتعبير يمثل في الجوهر حالة إعدام للكاتب والمفكر والباحث. يبدو أن جمال خاشقجي التزم بالبداية بقرار الدولة مصادرة حريته فعاش صمتا طويلا منتظرا أن يتغير القرار، لكن القرار لم يتغير.
شخصيا كنت أتوقع أن يغادر، فهو ليس وحده من بين المثقفين العرب ممن تركوا أوطانهم لهذا السبب وليس لغيره. أعقد ما في ظاهرة جمال خاشقجي التي لن تكون الأخيرة أنها وصلت لأصدقاء النظام ومحبيه من العقلانيين المدافعين عن شرعيته. إن هرب المثقفين أم سجنهم انعكاس لطبيعة التغير الذي تمر به المملكة العربية السعودية وانعكاس، بنفس الوقت، لمأزق الحريات والحقوق الذي مازال يخنق شعوب الإقليم ويسهم بتردي واقعها.
ولفت نظري في مقابلات جمال خاشفجي التليفزيونية رفضه بأن يصنف نفسه معارضا سعوديا، فهو ليس معارضا كما قال بل يؤمن بالبيعة للملك ويلتزم بها، ووفق ما طرحه جمال عبر مشاركاته المختلفة لا يوجد تناقض بين الولاء للدولة والملك، وبين النصح وإبداء الرأي، فالشأن العام يجب ألا يحتكر من قبل الجهاز الرسمي فقط. لقد استطاع جمال خاشقجي طرح نموذج يوضح محنة المثقف السعودي والعربي في التعامل مع سلطة تملك كل السلطات ولا تحدها حدود سوى العرف إن التزمت به.
خاشقجي كان دائما الشخص الذي يفرض عليك استيعاب أبعاد الحالة السعودية وخصوصيتها، بل كان من أقدر المثقفين السعوديين الذين تعرفت عليهم في العقود القليلة الماضية على إقناع الكثير منا بآفاق الاصلاح ضمن اليات النظام الملكي السعودي. لجمال خاشقجي قدرة على التحاور، لكنه بنفس الوقت منسجم مع نفسه ومع وسطية موقفه. هذا لا يعني أننا لم نختلف في الأفكار، الأجمل ان في خلق جمال خاشقجي أنه كان في نقده باحثا عن الحقيقة ومستمعا صادقا لما يصدر عن من يختلف معه.
وبالرغم من قوة بعض الدول العربية المالية، فهناك أمور كثيرة لا يستطيع المال أن يؤمنها أو يصادرها، فالإنسان لا يحيا بالمال أو بالمأكل والمشرب لوحده، بل يحتاج للأفكار والقيم والاهتمام بالشأن العام نفس حاجته للهواء والماء. هذا ما يميز الحضارة الناجحة والنظام السياسي النامي عن ذلك الخائف المرتبك، ولنا في ما وقع في عدة دول عربية نموذج لمآسي الاحتكار السياسي. ان غلق المساحة العامة غير ممكن، فذات المنع الذي يستهدف التحكم سرعان ما يرتد على الدولة فيصيبها بأكبر الأضرار. إن محاسبة مثقفين وكتاب وصحفيين على رأي سلمي يؤدي بطبيعة الحال للعنف المجتمعي بأكبر مما نعتقد. مصادرة الحريات رسالة سلبية لحملة الفكر السلمي لأنها تدفعهم نحو الراديكالية بثبات خاصة إن شعروا بأن الإصلاح لم يعد ممكنا.
في هذا المجال فإن التخوين والاتهام بالولاء الذي يتعرض له جمال خاشقجي لأنه طرح رأيه منذ خروجه من المملكة العربية السعودية لن يغير من طبيعة المشكلة. فالهجوم الحاد والاتهام يخلق جفاء أكبر بين المثقف والمكان الذي غادره، كما أن صناع التخوين يزيدون من عدد الناقدين والمنتمين لنموذج حرية التعبير والإصلاح.
إن توجيه النقد لحكومة أو دولة عربية محددة يؤدي في معظم الحالات العربية للقطيعة بين المثقف وبين حكومته ويؤدي للسجن وكثيرا للهرب نحو عوالم تحترم الحريات والحقوق. النظام العربي الرسمي كثيرا ما يشن حربه على الحقيقة، بعض منا ممن اختبر العيش في الغرب تعلم مبكرا بأن الرأي يجب ألا يجرم مهما كانت طبيعته. إن الاعتقاد بإمكانية إيقاف النقد والاجتهادات في غير محله. المشكلة ليست بالرأي بل بالأوضاع، وهي ليست بالنقد بل بالواقع المتناقض الذي يتطلب مساهمة مدارس مختلفة للتعامل مع تبعثره وحدة مشكلاته.
الوطن القطرية