هل من مخرج في زمن صعب، بمستجدات خطيرة تم تنشيطها في السنوات الأخيرة، في عالم ليست للعربي فيه أية فاعلية، يتلقى ولا يفكّر إلا قليلا، ولا ينتج أدوات حمايته العادية والاستراتيجية؟ قد يبدو السؤال كبيرا وخطيرا أيضا، لأنه يرجعنا إلى المرآة اليومية التي نهرب منها في كل ثانية لأن ما تظهره لا يستهوينا، والتفكير فيه غير مجدٍ، في وقت انهارت فيه الكثير من القيم الفكرية والثقافية والنزاهة التي تصنع الإنسان السوي، وتسيَّد بدلها النفاق، والسرعة في الأحكام، والدفاع عن التخلف والأمراض الاجتماعية بوصفها خصوصيات محلية وقومية يجب عدم التخلي عنها، وبيع الذمم، حتى لو كان ذلك على حساب العقل الذي يشكل اليوم المسلك الوحيد للخروج من دوامة إعادة إنتاج التخلف والمعرفة الوهمية.
فقد تم تدمير العقل بمختلف الوسائط المتوفرة عربيا، بوصفه القوة المولدة للنقد واقتراح الحول الممكنة. في المئة سنة الأخير تراجع العقل المفكر والمقاوم وحلت محله هلامات دينية، طقوسية، طائفية،عرقية، لا شيء يحكمها إلا نظام التفكيك الداخلي، وتدمير الوحدة الروحية للشعوب العربية، تغرق الإنسان في أوهام وحلول جاهزة انتهى بها المقام، في السنوات الأخيرة، إلى إنتاج مؤسسة اسمها الإرهاب، لها نظامها وشخصياتها، وعلاقاتها المحلية والدولية واستراتيجياتها عربيا وعبر العالم.
السؤال خانق طبعا، لأنه يعيدنا بالضرورة، إلى ذاتٍ منكسرةٍ أصبحت هشاشتها اليوم ظاهرة لكل مختص وإنسان بسيط أيضا. من شدة تكرار المآسي والخيبات، خسرنا في العالم العربي عنصر المفاجأة، إذ أصبح كل شيء عاديا ومألوفا، حتى ولو كان في النهاية قنبلة موقوتة ستقضي في وقت ليس ببعيد على كل منجز عربي.
أصبح كل شيء يدخل في النمط العادي، لا يُحَرَّكُ له ساكنا، حتى لو كان فجائعيا مثل إبادة ألف شخص في يوم واحد بالكيميائي أو بالقصف، بغض النظر من المسؤول، أو حرق مدينة بكاملها على رؤوس أهاليها، أو إبادة قومية بكاملها، فقط لأن دينها يختلف عن الدين الغالب. ما يعني في النهاية، أن انهيارا كليا يلوح في الآفاق القريبة، في القيم والسياسة والاجتماعية والحياتية.
لا غرابة إذا قلنا: إن الزمن العربي لا يتحرك في ظل الأدخنة الثقيلة التي تحيط به من كل جانب، وإذا تحرك، لا يفعل ذلك إلا لمزيد من التقهقر وفقدان البوصلة. فكل ما يحدث فيه يؤكد ذلك. هو خوف داخلي مزمن، كل دولة عربية تحاول حله بطريقتها. لنتخيل معا مقدار الغرابة التي قد تصل أحيانا إلى أقاصيها التي لا تطاق، وإذا تحملناها فهذا يعني أن شيئا مهما فينا قد مات أو شلّ نهائيا.
ننزعج طبعا عندما نتحدّث عن تخلفنا الصعب، ولكننا نعرف بشكل صارم وجديٍّ أن الخروج منه يقتضي بالضّرورة استنفارا حقيقيا لكل الوسائل العقلية المتوفرة وظنيا وقوميا. فالتخلف ليس قدرا مرتبطا دائما بالفقر أو الحاجة بالمعنى المادي للدول، لكن بشيء أكبر من ذلك.
الكثير من الأمم الغنية فقيرة في حياتها اليومية، وشعوبها تموت يوميا بالمئات وربما بالآلاف بسبب الإهمال والأمراض والجريمة الموصوفة، مثل الكونغو الغنية بالذهب والخيرات الباطنية، أو نيجريا إحدى أهم الدول النفطية في أفريقيا، وليبيا التي التحقت اليوم بهذا الركب، مع أنها دولة غنية ليس فقط نفطيا، ولكن ثقافيا أيضا.
فلا بنية تحتية حامية تستحق الحديث عنها. مساحات من الغنى التراثي والميراث الإنساني، تموت في العراء والفراغ، وتحت التراب. المشكلة الكبيرة تتلخص في سؤال الثروة ومآلاتها ومالكيها. وفي المقابل، الكثير من الدول الفقيرة في مواردها، ولا تملك الشيء الكثير منها حتى لسد استهلاكها الضروري اقتصاديا، بل أكثر من ذلك كله، عليها أن تقاوم قسوة الطبيعة، من أجل وجودها على وجه الكرة الأرضية، لأن الطبيعة وضعتها في عمق بحر ممزق على شكل جزر لا يجمع بينها إلا الماء، وزلازل مدمرة مستمرة على مدار السنة، واضطرابات طبيعية اضطرت اليابان مثلا للتأقلم معها.
يمكن في الكثير من الأحيان قهر قدر الطبيعة الصعب بالتكنولوجيا المنتَجة لهذا الغرض. التي لا أحد اليوم يشكك في عبقرية وقدرات بعض هذه البلدان على تخطي الصعاب جميعها، بما في ذلك جحود الطبيعة وقسوتها مع إمكانات وخيرات طبيعية قليلة أو منعدمة. الرهان الأكبر موضوع على عاتق الإنسان الفاعل. أكبر كنز هو ذلك الشخص الذي يفكر في كيفية إنقاذ أرضه من هلاك مبين، مستعملا ملكاته العقلية والتفكيرية كلها. تخلفنا إذا في العالم العربي ليس في الخيرات، فهي موجودة بكثرة ومتوفرة بالزايد مثلما يقال، ويمكنها أن تغطي حاجات البشرية كلها.
فقد منحت الطبيعة هذه الأرض الضرورات جميعها، وقدمت لها ما يجعلها تتحكم في العالم استراتيجيا، وتسيّره وفق مصالحها وحاجاتها، كما تفعل الدول العظمى. الدول والكيانات لا تُسيَّر بالعواطف حتى ولو كانت صادقة ونبيلة، ولكن بتلبية الحاجات المشتركة، وبإيجاد القواسم التي تضمن رفاه الجميع، وليس الغرب وحده، أو أمريكا. يعيش اليوم مجموع هذه البلدان على الخيرات العربية بينما، في المقابل، يزيد تفخيخ هذه البلدان من الداخل لتدميرها وفرض التبعية عليها، في ظل عودة الاستعمار الهمجي الذي لم يعد في حاجة إلى تغطية جرائمه المعلنة والسرية. من يحاسب أمريكا اليوم على ثلاثة ملايين عراقي تمت إبادتهم وتدميرهم وعلى الاحتلال؟ للعرب الحق في الوجود مثل بقية الأمم. ولهم نصيب في هذه الحياة التي لولا نفطهم لبقيت البشرية في الحجر الفحمي.
لكن للأسف، شيئا من ذلك حدث، وبقي العرب على حالتهم الأولى، وكأن المستقبل لا يهمهم مطلقا. بل العكس هو الذي حصل، العالم المتقدم هو من يتحكم في مصائر العرب، ويحدد اليوم مساراتهم بعد أن أغرقهم في حروب مميتة وقاتلة غير مؤدية إلا إلى المزيد من التدمير الذاتي. لن يوقفها إلا إذا أراد الذي أشعلها، تسنده القوة والتكنولوجيا المعقدة. هي حرب المئة سنة المقبلة التي تم تشغيل أدواتها الأكثر فتكا وتخلفا: العرقية، الدينية، الطائفية، الجهوية، واللغوية وغيرها، وهي كلها أدوات مؤهلة لزرع بؤر النار في كل مكان، في كيانات منقسمة داخليا وضعيفة بنيويا في ظل انهيار الدولة المركزية الحامية والمنظِّمة. لن تترك وراءها إلا الرماد، وحسرة ستصبح تاريخا وذاكرة مجروحة.
هل لنا أن نعود إلى سؤال البدايات، لنرى بأن الصراخ اليومي الذي يطلقه الكثيرون عبر العالم العربي المفخخ داخليا، ليس هستيريا مرده الهزائم المتكررة، وليس جنونا مزمنا تم توريثه للأجيال، ولكنه صراخ اليائس الأخير لاستدراك ما يمكن استدراكه، فهل من مخرج في زمن صعب؟
القدس العربي