نوعان من المخاطر تتهدد العالم العربي، الخطر الذاتي، النابع من عمق التناقضات الداخلية، الذي يتبدى واضحا اليوم، من خلال الصراعات القاتلة المؤدية حتمًا إلى خطر التمزق وانهيار الدولة، التي أصبحت هشة في البلدان العربية جميعها، سورية، العراق، اليمن، بعض بلدان الخليج العربي، حتى مصر. يضاف إلى ذلك، مخاطر أخرى تبدو ثانوية لكنها شديدة الأهمية، تتحدد بالأولى.
أما الخطر الثاني فهو خارجي في مظاهره العامة. ماذا يفعل العرب لمواجهة الخطر القادم من خارج الحدود وهو أمر وارد جدا. الحروب لم تنته. ما هو السلاح العربي أو الأقل الإستراتيجية المهيأة، مخطط (أ) ومخطط (ب) لمواجهة قوى أجنبية، محكومة بمصالح آنية وأخرى بعيدة المدى، تفرضها المتغيرات المختلفة، وثالثة إستراتيجية رهينة العلاقات الدولية. الخطر الذاتي ليس ذاتيا كليا كما يظهر شكليا، لكن يدخل فيه شركاء كثيرون. أي أنّ العرب ليسوا سادة أنفسهم وخياراتهم.
بل قد يسهموا في تفكيك بعضهم بعضا بسبب خلافات قبلية، مصلحية صغيرة، زعامية، وغيرها، مملاة من الخارج.
العالم العربي لم يتمزق أو يدخل في حروب بينية وأهلية، لأنه أراد ذلك، طبعا العامل الداخلي موجود ومهم، ولكن أيضا هناك العامل الخارجي الذي يملك القوة والسلاح، في ظل خيارات دولية أكبر من الإرادات العربية. الخطر الأجنبي يخضع لاستراتيجية خاصة يهم، فيها بالدرجة الأولى الأمن الأوروبي والأمريكي. وما عداهما، عالم غير موجود على وجه الأرض، تتكفل به الهيئات الدولية المدنية، التي تحولت مع الزمن إلى أداة لقياس المخاطر، ووسيلة إصغاء للمسارات والتذبذبات التي تهم أوروبا وأمريكا كثيرا، لترتيب، وإعادة ترتيب مختلف السياسات والاستراتيجيات القادمة من وراء البحار.
لهذا لا تبدو المسألة الأمنية أمرا سهلا، ولكنها شديدة التعقيد، ونتائجها ليست بسيطة. السؤال الذي يسبق هذا وذاك، هو سؤال آخر أعتقد أنه أكثر جدارة: يحمي العرب أنفسهم، ويُحمَون ممن، ومن ماذا؟ أي المخاطر تتهددهم اليوم التي تهز أمنهم؟ وكياناتهم؟ الحروب البينية؟ الحروب الخارجية؟ ضد من ومع من؟ عدو مفترض لا نعرفه اليوم؟ ضد إسرائيل التي تنوي تغيير خرائط المنطقة، وقد بدأت في إنجاز ترتيباتها السرية حسب تصريحات كبار ضباطها، والكثير من قياداتها، ووفق العديد من الدراسات الإستراتيجية، ويظل الخليج الغني بنفطه وغازه أحد مطامعها الأكيدة، بل أهمها؟ قد يبدو الأمر بعيد التحقق اليوم، لكن لو قرأنا قليلا ما يراه الخبراء العسكريون، سنكتشف أن ما يتم التصريح به من هنا وهناك، ليس فونتازما ذاتية غرائبية، ولكنه حقيقة. الخرائط أمامنا.
لمن تعود فوائد نفط وغاز جنوب السودان؟ من يشرف على العمليات السرية لنقله وتحويله وبيعه؟ نفط المنطقة الكردية التي تستعد للانفصال، من هم الخبراء الذين يدفعون بها استراتيجيات شديدة الخطورة ستحول العراق القديم، إلى مجرد قوقعة تعاني من الموت البطيء؟ نفط وغاز سوريا، ثم نفط وغاز الخليج، كلها تدخل ضمن حسابات النزاعات المحلية والدولية لإسرائيل فيها الحصة الأكبر بحكم انغراسها في المنطقة؟ لا أعتقد أن العرب يدخلون اليوم ذلك في حساباتهم، إذ تكاد أن تتحول إسرائيل إلى حليف من دون أن يبدي هذا الحليف أية نية للتنازل أو السلام.
لا تزال فكرة سحب الدولة الإسرائيلية، نحو بيت السلام والطاعة واردة لدى الكثير منهم، وهم بهذا لا يعرفون مخاطر الأطماع الصهيونية المتوسطة وبعيدة المدى. هذا النوع من الأمن يقتضي بناء صناعة عسكرية عربية ومدنية مستقلة، في ظل الحسابات الدولية والتقاطبات الناشئة، لا للاعتداء على غيرهم من الشعوب الأخرى، ولكن لحماية أنفسهم فقط من خطر قائم محتمل الوقوع.
وهذا بعيد التصور، فهل يملك العرب حق المبادرة وحق حماية النفس ما دام الحامي موجودا؟ الحامي الحالي لا يمكنه أن يتخلى عن صوته المضمون في الشرق والحليف الأكيد: إسرائيل. مهما فعل العرب، ومهما تنازلوا، ومهما قدموا من مغريات مالية، لن يكونوا حليفا أكيدا لأوروبا، ولا لأمريكا، في غياب أي حل للمعضلة الفلسطينية التي تحولت في الإعلام العالمي والعربي أيضا إلى حدث عابر وثانوي. الدول كلها تعرف جيدا أن استمرارها لا يمكن أن يتحقق من دون حماية ذاتية وغطاء حقيقي لسمائها.
من يملك السماء اليوم؟ سماءنا تحديدا. يتحرك الطيران الإسرائيلي كما يريد، ويضرب الهدف الذي يريد خارج حدوده؟ الحدود العربية منتهكة بشكل مكشوف ومفضوح؟ أية حدود بقيت للعراق، أو سورية، أو مصر، أو للكثير من الدول العربية الأخرى؟ العرقية التي جاءت مع تنظيرات ميشيل عفلق، حزب البعث، جعلت الأقليات غير العربية تندثر في ظل الأزمات الطاحنة، أو تكاد، بعد أن سرقت منها مواطنتها وتحولت إلى هلام غارق في هلام أكبر منه. هل ستسمح إسرائيل بعالم عربي مسلح للدفاع عن نفسه؟ طبعا لا.
برغم أنها تسيّج نفسها بترسانة من الأسلحة النووية. تابعنا جميعا موقف اللوبي الصهيوني في أمريكا، بالنسبة لصفقة السلاح مع السعودية، وكيف ووجهت برفض كلي.
مع أن الأسلحة المباعة للعرب كلهم، وبلا تخصيص، تخضع لاشتراطات كثيرة على رأسها أن لا تصل إلى إسرائيل. فقد أصبحت هذه الأخيرة مقياسا لكل فعل تجاري عسكري. أمام معضلة أخرى التي على العرب العمل عليها ليل نهار للوصول إلى حلها بالتراضي، مشكلة الماء. لقد تأخرت مصر والسودان كثيرا في هذا المشروع، إذ كان عليهما أن يكونا شريكين حقيقيين، عندما كانت إثيوبيا تبحث عمن يمكن أن يستثمر في سدّ النهضة؟ وكانت إسرائيل أول من راهن على المشروع، لأنه يضع مصر تحت سلطانها استراتيجيا.
فأصبحت بشكل مباشر وغير مباشر المتحكم الأساسي في المياه، سلاح المستقبل. معضلة تكبر كل يوم أكثر. زيارة السيسي الأخيرة لأفريقيا هي بداية إدراك أن المخاطر حقيقية وليست مجرد وهم كبير. الماء هو واحد من أهم الرهانات العربية التي قد تنتهي إلى حروب مدمرة؟ مخاطر التمزق؟ المزيد من الحروب المنهكة التي تأكل أموالهم وحياتهم تحت رقابة عليا مالكة للنار وسلطان القرار كما في الإمبراطورية الرومانية قديما، لا تترك شيئا للمصادفة. بل تسيره كما تشاء وكما ترتضي. القوي هو الذي يملي الأخلاق وحدود الصحيح والغلط وفق مصالحه. ما يجب فعله وما لا يجب حتى التفكير فيه.
هل للعالم العربي، الذي يشكل كيانا لغويا ودينيا وتاريخيا مشتركا، الإرادة والقدرة والسلطة على فرض الأمن لحماية مواطنيه؟ هل يعقل أن تحمي أمريكا جزءا مهما من العالم العربي، وهي حامية لأخطر المؤسسات العنصرية اليوم: الصهيونية المتمثلة في دولة عدوانية تملك حقوق الدنيا كلها، حق النووي، حق القتل، حق الاحتلال وبناء المستوطنات؟ حق اختراق القوانين الدولية؟ أمر لا يحتاج إلى ذكاء كبير. مع أن العرب يستطيعون أن يلعبوا هم أيضا على الصراعات الدولية نفسها لاحتلال مكان محترم في المحافل العالمية. لا خيار لهم وهم على حافة الموت الفعلي بعد الموت الإكلينيكي.