المعطيات الراهنة لا تُشير إلى إمكانية عودة الجسم الخليجي لمجلس التعاون بعد الأزمة الخليجية، كما كان سابقاً، مع التأكيد بأن المجلس لم تكن لدوله سياسات موحدة ومتطابقة في السابق وإنما توحّد في بعض القضايا وفي الخطاب العام، والتأكيد على منظومة الوحدة الخليجية ككيان رابط لشعوب ودول المنطقة، وهي القاعدة الوحيدة المستقرة في الضمير الشعبي والاجتماعي، لكن تعاني من آثار العاصفة الشرسة التي لا تزال المنطقة تعاني من انعكاساتها، بعد استهداف قطر العنيف سياسيا وإعلاميا من محور خليجي من دول من ذات المجلس + مصر.
وحركة الدبلوماسية الأميركية وخاصة مبعوثي الرئيس ترامب مؤخراً، التي تزامنت مع تجديد التحرك الكويتي للوساطة، وهي وساطة مركزية تكسب ثقة كل الأطراف حتى من يهاجمها من دول المحور، ومن الأطراف الدولية والإقليمية، تؤكد أن مستوى الأزمة لن يستمر بهذا الوضع، لرغبة دولية وأميركية تحديداً للخروج من آثار اضطراباتها، وخاصة مسؤولية ترامب في تفجيرها، وحاجته للخلاص من هذا الملف.
وعليه فإن لغة التصعيد الإعلامي وتجديدها الموسمي، لا يغيّر من هذا التوجه، الذي سيصل إلى فك اشتباك يُترك بعدها فرص التواصل الثنائي بين قطر وبقية دول المحور، أو يوثّق اتفاق الضامن الكويتي لأطراف الأزمة، لإعلان انتهائها، دون أن يُشكل ذلك نهاية لما أحدثته من شروخ تحتاج إلى عهدة زمنية طويلة.
وأمام الكويت مهمة صعبة لرفض المحور المنطق السياسي الذي تشترطه قطر، كحق سيادي بحت بأن يكون الحل خارج اتفاق 2014، وخارج مطالب قائمة التصعيد والوصاية السياسية والاقتصادية، فتَطرح أطراف المحور ملفاتها لنقاشات تستمع الرد القطري، وتتفاهم على تسوية الملفات.
فيما اللغة اليوم من داخل دول المحور لا تزال، تُصعّد بنفس المنطق، مع رسائل تسعى للانتهاء من الملف بمكسب سياسي، يُخرج هذه الدول من أزمة التذمر الدولي، والصدمة العربية لحجم القطيعة والعقوبات المضرة بالأرحام والإنسان، قبل الاقتصاد والسياسة، لكن يُفهم من التجربة والموقف الكويتي، أنه قادر على تغطية هذا المأزق المعنوي، بصيغة تُراعي جانبي الأزمة في خطاب التسوية.
هذه التسوية المحتملة لن تغيّر المضمون التنفيذي، الذي ستقبل به قطر، عبر سياق سيادتها القومية، بمعنى أن الصيغة لن تنطلق من مطالب قائمة التصعيد، لكن ستُترك مساحة التفسير لكل طرف، والمساحة الإعلامية التي يحتاج أن يقدمها لشعوبه خاصة في طرف دول المحور، ثم تبدأ العودة إلى مراجعة كل دولة علاقتها مع قطر، باحترام سيادتها ومد الجسور معها ثنائياً، وهو أمرٌ لا تُمانع منه الدوحة، بل دعت إليه.
إذن الموقف اليوم هو في حقيقته معنوي إعلامي أكثر منه سياسيا، وهو يتركز بالخروج من أجواء الأزمة، ثم تصحيح العلاقات إن رغبت الأطراف بذلك.
متى سيتحقق هذا الأمر؟
- لا يمكن الجزم به، لكن من الصعب جداً أن يبقى التصعيد إلى يونيو القادم، فتُكمل الأزمة سنة بهذا الوضع، فهناك رفض دولي ضاغط، حتى ولو لم يضغط الملف الإنساني لرابطة شعوب الخليج.
التشكل الخليجي الآخر
فما هي أسس تشكل المجموعة الخليجية الأخرى، ودورها بعد الأزمة، ونقصد الكويت وعمان وقطر، هنا هذا التشكل يعتبر تحصيلا واقعيا، لعزلهم من مجموعة دول المحور، ودعوة مصر للشراكة في الحصار واستهداف قطر أمنياً، لكنه لن يأخذ التشكل الجديد بعده شكل صراع، وإنما يحتاج أن ينظم كتلته الجغرافية والديمغرافية، ثم يدشن توافقات سياسية واسعة، تضبط توازنها الحساس الإقليمي والدولي.
وبلا شك فإن هناك بعض الفروق بين الدول الثلاث، لكن قد يكون ذلك مدخلاً لتعزيز الجسور، والتقاطعات الدبلوماسية المتعددة مع المنطقة، وأول البواعث الاستراتيجية، هي حاجة هذه الأقطار لتوحد التنسيق الجماعي بدلا من القُطري، فالتكتل يعطي نتائج أقوى وأضمن، الثاني العبور إلى سياسة استقلال جديدة لما بعد المجلس الخليجي، دون اصطدام مع محور التصعيد، وإبقاء الجسور مستمرة، وبقاء التعاون مع الإطار البروتوكولي لمجلس التعاون، ورسائله الاجتماعية.
وأمام تشكل محور الاعتدال مهمة دقيقة جداً، وهي الموقف من إيران ومن التوازن المقابل لها وهي تركيا، وسلّة علاقات دول الاعتدال مع الدول الغربية، فكيف تتجنب دول الاعتدال أو تُحيّد على الأقل تغول إيران السياسي والطائفي، دون مواجهة إقليمية، تستثمر أرضها في حرب موسمية غالبيتها إعلامية ودبلوماسية عبثية، يجني منها ترامب مواسم لمفاوضاته، ولم تتراجع فيها إيران إقليميا مطلقا.
فلا يوجد أي ترجيح موثّق لعمل عسكري مع إيران، لكن حتى الزخم الشرس سياسيا بناء على التهديد العسكري الوهمي، يضغط على المنطقة دون أي جدوى لمصالح أهل الخليج، وهو يؤثر على أمنها، فلا حاجة لأي تكتل أن يضع نفسه تحت ضغطه السياسي والإعلامي.
ويكفي أن حرب ملاعنة الشيعة باسم حصار إيران، التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ المعاصر، لم توقف إيران شبراً عن اعتداءاتها، وانتهت إلى أن تكون قطر السُنية هي الدولة التي عُزم عليها.
درس تاريخي يحتاج إلى وعي عميق
ووجود الجانب التركي كحليف مسلم صديق، يحتاج التعاطي معه تحت توظيف مصالح مشتركة، يُدفع به تغول إيران، وإقناعها الضمني بأن هناك توازنا رادعا لها في الإقليم، فيؤسس الحوار معها لفك الاختناق الشرس، ولو نسبياً عبر هذا التعاون التركي الخليجي.
لكن مع تنظيم حيوي يُبقي الخطاب تحت دائرة هذا التعاون، دون أن تُطرح مسميات تضخيم، وبربوغندا مذهبية، أو سياسية باسم (العثمانية الجديدة) هذا ليس من صالح الخليج، وليس من صالح تركيا التي تحتاج لحماية مكتسباتها السياسية، بعد قرارها الذي ساهم في منع العمل العسكري في الخليج.
من خلال عمليات توازن صعبة تعوّض بعض خسائرها في سوريا والعراق، وصورتها في الضمير الشعبي الداخلي والعربي، بعد انفلات الوضع في البلدين لصالح المشروع الدولي الإقليمي، وحاجة أنقرة لعدم اشعال حروب سياسية مع أوروبا تستنزف شخصيتها، من خلال تصريحات عاطفية لا تقدم ولا تؤخر، مع الاعتناء بملفاتها الداخلية وخاصة المصالحة الكردية ووحدة الاخوة في حزب العدالة، وتعزيز العمل البرلماني المباشر والشراكة الشعبية.
ستكفل الأسواق المشتركة للدول الثلاث، لو تم تخطيط بنيتها بدقة، وحلول استثمارية استراتيجية، طريقاً مهماً لمكاسب كل دولة وتأثير هذا الحلف الاقتصادي على سياسة المنطقة في التعامل مع محور الاعتدال الخليجي، والذي كلما اقترب من كسب الشعوب وتعزيز مشاركتها الشعبية، وفضاء الرأي الحر الراشد، كلما قوي محوره وتمكن.
ولا يُمكن أن يسقط وضع دول محور التصعيد، فالتصعيد حالة سياسية عابرة كما نتمناه، والسياسة متقلبة وقد يأتي يوم تتحول فيه المواقع في الصراع والتحالف، وإنما قد يحتاج ذلك إلى زمن، خاصة حين تعود الرياض لممارسة الدور الطبيعي لها كمركز عربي إقليمي، لا طرف صراع مع أي دولة خليجية، حينها ربما يكون محور الاعتدال قد قطع شوطاً مهما، فينظم شراكته مع السعودية ليخدم الجميع مصالحهم الاستراتيجية.