كتب خالد الرويشان قبل أشهر منشورا مفعما بالآمال بُعيد تعيين عبدالعزيز المفلحي محافظا لمحافظة عدن، قال عنه الرويشان الكثير، وأسبغ عليه وابلاً من الأوصاف والسجايا النبيلة جعلتنا نترقب بحذر هذا القادم اللامألوف إلى هذا الزمن الرديء، القادم الذي لا يرتدي العقال أو الشال، والبعيد كليةً عن التحالفات الحزبية والقبلية والمناطقية، سيما وأن المناخ السائد في التعيينات الحكومية منذ ثورة فبراير وحتى اللحظة مبتداه المتردية ومنتهاه ما أكل السبع.
استمعت إلى كلمة المحافظ المفلحي مؤخرا، وهو يشخِّص حال محافظته عدن، ومنها اليمن عموما، واستحضرتُ فور سماعه ما أفاض عليه الرويشان من وصوف وسمات، فوجدت في حديثه مرافعة تاريخية عن أبناء محافظته عدن وعن اليمنيين جميعا في وجه كل المأجورين والحالمين ببناء امبراطورية الموانئ، ذلك أننا كيمنيين لم نستمع إلى حديث شجاع وصريح وصادق كهذا منذ ثورة فبراير، فالرجل في حديثه كان بحق وحقيقة مضمخ بالروح الوطنية النقية التي لا يمتلكها أياً كان من "النخبة" السياسية الحاكمة الحالية، من ألفها إلى يائها.
المفلحي الساحر كما وصفه الرويشان كان ساحرا فعلا، شجاعا في زمن اختفى فيه كل مسئول خلف شحمة أذنيه وراح يداري هذه الدولة ويطلب ودّ ذلك الشيخ، ولأن حديثه كان نابعا من قلب مشغوف بحب مدينته التي نما وترعرع فيها، ومنها حبه لليمن الكبير به وبما يحمله من قيم وطنية وانتماء وطني، فقد كان له وقْعه وصداه في أوساط المجتمع اليمني شماله وجنوبه، فمن يجرؤ سواه على قول ما قاله في زمن الارتياع والأحزمة المليشياوية والسيارات المترصدة المففخة؟!
"لن نقبل من يريد الوصاية علينا، لن نقبل بالمشاريع الجاهزة والمقولبة، لن نقبل أن نصنف في هوية ليست من هويتنا ولا ثقافة ليست من ثقافتنا وليخسأ من يريد أن يضعنا في الزاوية الحرجة" هذا ما قاله المحافظ المفلحي في رفض شجاع لكل من يريد تقويض اليمن وتغيير تركيبتها وهويتها والتأثير على استقلال قرارها، هذا الرفض موجه مباشرة إلى النزق الإماراتي الذي ظن ولايزال أن كل من يقع تحت سطوته لن يكون سوى دمية يحركها كيفما يشاء ويُلبسها مثلما يريد.
وخلال مشاهدتي لكلمة المفلحي، الكلمة التي كررتُ مشاهدتها عدة مرات ومثلي الكثير من اليمنيين وذلك دون شك ناجم عن الظمأ في المواقف الوطنية لدى ساسة اليوم الذي اعترانا جميعا، وخلال مشاهدتي لكلمته تبادر إلى ذهني قصة محارب ياباني فريد، فالمفلحي الذي اختفى عن الحياة السياسية المحدودة لأكثر من ثلاثين عاما بقي يتشرب وطنيةً ويختمر ولاءً وطنيا صافيا، ظهر نبيلاً فريداً في شجاعته وبيانه، ومثله كان الضابط الياباني هيرو أونودا.
فبعد أن ألقت القوات الأمريكية قنابلها النووية على اليابان وحصدت مئات الآلاف من البشر، استسلمت اليابان وانهزم جيشها، وانتصر الحلفاء، لكن الضابط الياباني أونودا لم يستسلم، وهو المحارب الياباني الوحيد الذي لم ينهزم في معركته مع أعداء بلده وأمته.
ثلاثون عاما من الشجاعة والإقدام والتضحية ظل خلالها هيرو أونودا متخفيا في أدغال الفلبين يقود مجموعته المقاتلة في مواقعها المتقدمة مترصدا لقوات الحلفاء التي شرعت في غزو بلده واخضاعها وسلب استقلالها، حتى بعد انجلاء غبار المعركة بسنين طويلة، كان دافع أونودا الوحيد حبه اللامحدود لوطنه واستعداده مقاتلة أعداء شعبه دون هوادة وحتى النهاية.
وخلالئذ لم يضع أونودا فرضية انهزام واستسلام الإمبراطورية اليابانية، ولم يساوره شك في أن بلده المتجذر في حضارته وتاريخه سينهزم، ولأجل ذاك ورغم الهزيمة المدوية لبلده بالسلاح النووي، بقي الساموراي مع رفاقه يقاتلون في إحدى غابات الفلبين التي كانت تخضع للسيطرة اليابانية قبل الحرب العالمية الثانية، وبعدما فقد جميع رفاقه وبقي وحيدا كالسيف "واكيزاشي" لم تفلح كل المحاولات لإثناء الساموراي الأخير عن مواصلة معركته ومغادرة جزيرة "لوبانغ" والعودة إلى بلده إلا بعد أكثر من 27 عاما من انتهاء الحرب، وبعد عودته إلى بلده واستقباله استقبال الأبطال دوّن كتابه الشهير "لا استسلام: حربي خلال ثلاثين عاما NO SURRENDER: MY THIRTY YEARS OF WAR”.
في كلمة المحافظ المفلحي نجد الكثير من العزيمة والإصرار، والتدفق الوطني الآسر، وكلنا أمل أن يحذو كل ساسة اليوم حذوه، فهو الساموراي الشجاع الذي سيخلده اليمنيون في ذاكرتهم كسياسي حمل رأسه على يده دون وجل وراح يقارع السياسات التوسعية للعيال وأذنابهم ومرتزقتهم، وسينتصر لا محالة لأنه على الحق ومع الحق والحق معه.