في خطاب الرئيس التركي في الذكرى الأولى لمحاولة الانقلاب العسكري الفاشلة جمع رجب طيب إردوغان خصوم الجمهورية التركية وعلى رأسهم أنصار جمعية «خدمت» التي يرأسها الداعية المقيم في أمريكا فتح الله غولن، وحزب العمال الكردستاني الذي يقود حرب عصابات داخل تركيا (كما يهددها عبر امتداده العراقي في جبال قنديل وفرعه السوري «الاتحاد الديمقراطي»ّ)، وتنظيم «الدولة الإسلامية» الذي تنحسر سيطرته الجغرافية بعد سقوط الموصل، وأخيراً أعطى تلميحاً واسعاً تحت إطار من سماهم «من يحاولون محاصرة حدودنا»، والذي يُفهم على أنه يعني الاتحاد الأوروبي (كما يمكن أن يعني أشياء أخرى).
ضمن معانيها المتعددة، آذنت محاولة الانقلاب الفاشلة، عملياً، بانتهاء مرحلة سيطرة الجيش على السياسة، والتي كانت سبباً لخضّات كثيرة في تاريخ تركيا الحديث، وإسقاط الانقلاب، لهذا السبب بالذات، يعتبر إنجازا تاريخياً كبيراً في حياة الشعب التركي والإقليم المحيط بما فيه العالم العربي، فسقوط تركيا في قبضة العسكر كان سيكمل المشهد السوداوي المريع في المنطقة والثورات المضادة لأنظمة الطغيان العربية الراسخة وحلفائها الجدد والقدامى وهو ما يفسر الترحيب الشديد الذي لقيته أخبار الانقلاب الأولى في بعض وسائل الإعلام العربية وخصوصاً في القاهرة ودمشق وأبو ظبي.
لكن الغريب كان مواقف عواصم غربية ووسائل إعلامها حيث ران الصمت انتظارا لحسم العسكر لمعركتهم، هم أيضاً، ضد نتائج الديمقراطية التركية التي جاءت بحكم حزب «العدالة والتنمية» وليس بأحزاب العلمانية والقومية المتشددة التي كانت حليف العسكر الدائم في انقلاباتهم.
قدمت محاولة الانقلاب الفاشلة درسا مهما وهو أن الشعب التركي، بما فيه الأحزاب السياسية، وقطاع كبير من الجيش والإعلام، رفض، وبقوة مثيرة للإعجاب، قرار فئة متآمرة مجهولة التسلط عليه واعتبار نفسها فوق المؤسسات والأحزاب والإرادة الشعبية تحت أي شعار كان. تفسر هذه الخلفية التاريخية والملابسات الداخلية والخارجية في موضوع تأييد بعض الدول العربية، المعلن، أو الغربية، الخفي، للانقلاب التداعيات السياسية والعسكرية والأمنية اللاحقة بدءاً من موجة التطهير الواسعة التي طالت قطاعات الجيش والدولة والإعلام، وتزايد قائمة الخصوم الطويلة، وتفسر أيضاً التقارب التركي الروسي وحالة التوتر المتصاعدة مع أوروبا والتعامل مع العلاقة مع واشنطن بمنطق الضرورة الذي لا يخفي الحذر والقلق والتوجس وخصوصا من إصرار واشنطن على تسليح فرع العمال الكردستاني في سوريا وتعهيده مهمة قتال «الدولة الإسلامية».
رغم هذه التداعيات الكبيرة المؤثرة فقد استطاع إردوغان وحزبه النجاح بالفوز باستفتاء التعديلات الدستورية التي عززت قدراته الرئاسية وتحكمه في الجيش والأمن والإعلام والحزب، وإذا كان فشل الانقلاب قد حسم المعادلة الباهظة لتحكم الجيش بالسياسة فإنه، من ناحية أخرى، دفع نحو استقطاب جديد في الساحة التركية ساهمت في دعمه إجراءات التطهير الكبيرة التي طالت، حسب ما ذكرت وسائل إعلام عديدة، قرابة 169 ألف موظف وثلث قيادات الجيش وعددا كبيرا من الأمنيين والصحافيين والقضاة، والضغوط الغربية على تركيا في قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية والتعبير.
لا يمكن المجادلة في ضرورة الإجراءات اللاحقة الهادفة للحفاظ على الديمقراطية التركية ومنع محاولات انقلاب أو تآمر جديدة لكن ذلك لا يمنع من القول إن رد الفعل الكبير الذي استهدف هذه الأعداد الكبيرة من الأتراك وضع آليات الحفاظ على الديمقراطية التركية، وهي الآليات نفسها التي جاءت بـ«العدالة والتنمية» إلى السلطة، في وضع صعب جدا وأعطى مصداقية للضغوط الغربية وللاحتجاجات الداخلية التركية.
لا يمكن المجادلة أيضاً في أن تركيا هي موضع استهداف كبير سببه موقعها شديد الخطورة على خريطة العالم، فهي أكبر جسور اللقاء للعالم الإسلامي مع الغرب، جغرافيا وحضارياً، وهي أيضاً نقطة وصل بين روسيا، التي أثبتت قدرة عظيمة على التدخل في مجريات العالم، وأوروبا، من الغرب، ودول الاتحاد السوفييتي السابقة الإسلامية، من الشرق، إضافة إلى كونها على حدود إيران والعراق وسوريا، وهي حيثيات تؤهلها لتكون عاملا أساسيا للتأثير في أوروبا والعالم، وبالتالي، فإن الحفاظ على استقرار تركيا وازدهارها هو مصلحة عالمية وإقليمية وعربية.
جدير بالذكر، هنا، أن كل هذه العوامل ترتكز، أساساً، على تقليل قائمة الخصوم الداخلية، وبعد الانتصار على الانقلاب، يصبح الاتجاه نحو التسوية والعدالة والمصالحة الوطنية، وتعزيز أسس الديمقراطية، هو السلاح الأكبر الذي يمكن لإردوغان و«العدالة والتنمية» ولتركيا عموماً الاعتماد عليه.