أصبحت دول العالم إلا في عالمنا العربي تتنافس بكل ما أوتيت من قوة في كافة مجالات الحياة، كي تكون دولاً مرموقة وتسعى للحصول على مكانة متميزة بين جيرانها والعالم من حولها ، ولكي تصبح حديثاً إيجابياً في وسائل الاعلام العالمية العامة والخاصة، تبُرِز نموها التقني والتكنولوجي وتتباهى بقوتها السياسية والاقتصادية ونظام حكمها العادل أما بقية الأمم حكومات وشعوب، دون تميز بين البشر على أي أساس عرقي، ديني أو مذهبي ولون أو لغة أو فقراً وغنى، هكذا أصبحت دول العالم تتصارع بطرقٍ شتى فيما بينها للظفر بمقعد صدق بين صفوف الدول المتقدمة إلا نحن في دول الشرق الأوسط، التي تجاهلت تلك العوامل التي تعتبر الرافعة الوحيدة لنيلها مستقبلاً مشرقاً ومكانةً رفيعة بين أقوى دول العالم التي باتت ترجوا رضاها وتخشى سخطها.
ولم تعد عوامل القوة والضعف تقيم من خلال سعة مساحة الدولة أو تعداد سكانها الضخم وتنوع تضاريسها الجغرافية سواحل صحاري وجبال، بل صارت القوة الاقتصادية العادلة والحضور الثقافي والإعلامي الحر هم القوة الحقيقية لتسامي شعباً ما وارتقائه الى مصاف باقي الشعوب المتقدمة، عِلماً وحقوق، وباتت شبكة المصالح العالمية هي المحرك والرابط الحقيقي بين الدول حكاماً ومحكومين نزولاً عند المثل القائل لا يوجد في السياسة عداوة دائمة ولا سلام دائم وإنما المصالح المشتركة هي الدائمة.
وذلك لأن المساحة الواسعة والعدد السكاني الضخم قد يكونا مصدراً من مصادر الخطر على الامن القومي والتدهور المعيشي للشعوب ومطمعاً دائماً لدى القوى المتربصة ذات الأهداف التوسعية، إذا ما افتقرت سلطاتها الحاكمة لرؤيةٍ استراتيجية وطنية شاملة، ونظام حكم صارمٍ وعادل يحفظ الحقوق ويستوفي الواجبات، ويمنح الشعب مساحة واسعة من حرية الرأي والمشاركة السياسية في بناء الدولة والمجتمع.
المانيا نموذجاً للأنظمة العربية التي يجب ان يقتدي بها، ليست كبيرة المساحة وذات عدد سكاني كبير صارت مهوى الباحثين وقبلة العلماء بعد الحرب العالمية الثانية التي دمرتها الى الصفر إلا أنها نهضت بعد أن سخرت وقتها كله للبناء وإعادة ما دمرته الحرب وتحدي آثارها والجراح، وفي سنوات قليلة عادت إلى ما كانت عليه بل إلى أفضل مما كانت بكثير معتزة بكيانها القومي وهويتها الوطنية.
فأصبح من حضيَّ بزيارتها سعُد ومن رُزق بإقامتها أمِن، ومن وجد فيها فرصة عمل تحققت أماني عمرة، لأن القانون فيها حامي للجميع مقيمين اجانب أو مواطنين محلين، لا يخضع العامل فيها لنظامٍ ظالم يعكس عبودية القرن العشرين بصورة مجحفة، ولم يُعامل فيها الوافد بطريقة دونية وعيوناً تحطُ أجفانها مزدرية من قدره الإنساني قل شأنه أو كَبُر تطبيقاً لمبادئ الإسلام وهي لا تؤمن به كدين، رُقِيِّ الشعب الألماني صار علامةً بارزة بين باقي شعوب أوروبا، جسور الثقافة التي انشأتها المانيا صارت العلامة المميزة لها بين باقي شعوب العالم، لم تعرف الشعوب العربية المنابر الإعلامية الحرة لكل فرقاء السياسة ومختلفي الرأي كما عرفتها المانيا التي صارت منابرها حرة امتعضت منها الأنظمة وسَعُدت بها الشعوب وحققت قفزة توعوية وتنويرية نوعية لا حدود لها، لم تكن تلك المنابر حكراً لطرف دون طرف أو دولةٍ دون أخرى، لم تكن ألة عزف رخيصة تعزف ألحاناً تطرب عُمراً وتترك زيدا بل كانت سماء الحقيقة وبحر الواقع وكعبة لضحايا القمع يهفون إليها بفضلٍ من الله ومُنجزاً حضارياً صنعته المانيا الدولة والمجتمع.
لم تكن المانيا يوماً جهازاً استخباراتياً للأذى والسجن على الجنس والدين أو الهوية يتبع أحد أو يحمي مصالح دولةٍ أو طرف، وتعذيب كل من له علاقة بالتدين وارتياد المساجد لم نسمع بسجين رأي في المانيا لأهلها أو القادمين إليها من أي نوع أو توجه لم تشكل محاكم الاتهام الجزافي فيها لإصدار الأحكام السياسية الباطلة على أرضيها، أو من خارج حدودها بدعم أو أيعاز من أي نوعٍ من أي طرفٍ خارجي.
تغيرت مفاهيم الحياة العربية والاسلامية عن سابق زمانها فيها، إلا أنظمتها لم تتغير كألمانيا التي غيرت طريقة التخاطب الدولي معها صارت محط الأنظار وموضع الاحترام لكل الأحرار والباحثين على الحقيقة وحقوق الانسان من الأجانب قبل الأقارب، حباها الله بالعقول الانسانية التي كانت مصدراً لسعادة شعبها وأمنه واستقراره ويداً حانية تمسح على رؤوس القادمين اليها طلابا ولاجئين وعمال وتشرح صدور الفقراء وتغيث ضحايا الزلازل والكوارث والحروب حول العالم، عبر كل المنضمات الإنسانية والدولية الحكومية والتطوعية تعمل نهاراً وتتكلم وجهاراً دون خوفٍ من تهمة أو كيد من حسود.
علماً بأنه لا يضع الانسان موضع الكيد والحسد والاتهام إلا التفوق، والتميز، والنجاح، سواءً كان فرداً أم كان شعباً دولة ولم يكن الفشل والانحطاط والتخلف يوماً عنواناً لشهرةٍ يُصفق لها أو وساماً يمنح للقائمين عليها، يكيد الحاسدين ويطلقون نيران قلوبهم دوماً على أصحاب العقول النيرة والسيرة الحسنة والتفوق الدائم والاستقرار المعيشي الهادئ دون قلق، والناعم دون قسوة وفضاضة.