في احدى المرات قلت لصديق امريكي، ان النبي محمد صنع امة بالاسلام. واليوم يتم استخدام هذا الدين لتدمير امة.
كان العرب مجرد كيانات محتربة وجلفة، صنع منهم مضمون اوجدوا منه واحدى من اكثر امبراطوريات التاريخ شأنا، عدا عن تحول بنية الخطاب اللغوي للعرب من وسيلة شفاهية الى لغة تدوين هضمت كثير من الثقافات والحضارات.
حين نتحدث عن العرب نعني اللغة بدرجة رئيسية وليس الخرافة العرقية. انا عربي بحكم لساني، اما عرقي فهو مجموع عرقيات انصهرت وترسبت عبر آلاف السنين يصعب تتبعها.
ذات يوم من ثمانينيات القرن الماضي، سأل دبلوماسي يمني، هو السفير احمد حسين اغا، في سويسرا زميل ايراني؛ ما الذي تريدوه منا العرب؛ حينها كانت الخمينية ترتدي الاسلاموية كشأن سياسي مبتهج بتصدير الثورة، اجابه الدبلوماسي الايراني: لقد دمر العرب حضارتنا بالإسلام وسنستخدم الاسلام لتدميركم.
تلك ايضا اكذوبة تكرسها شوفينية فارسية، لان الدولة الساسانية كانت متفسخة واتت اقوام فتية مدعومة بالعقيدة لتدمر الدولة الساسانية. وللعلم شكلت الساسانية واحدة من اكثر اشكال الاضطهاد ضد المواطنين، باعتبارها موروث غازي على مجتمعات اصلية تأتي من شمال الهضبة الايرانية، والدليل ان الاسلام انتشر بسهولة، بينما استمرت مناطق الديلم وشمال فارس زرادشتية، كما فر جزء كبير الارستقراطية الساسانية الى الهند. وهي المناطق التي ظلت موطئ لانتشار التشيع حين ظلت فارس بغالبيتها سنية الى بداية القرن السادس عشر.
واذا استدعينا الخارطة المذهبية في جزيرة العرب فهي محمولة بتصورات عرقية او قبلية متنافسة، حيث يصيغ الدين او المذهب شكلا تحاول فيه المحافظة على خصوصيتها، وهو ما سيجعل اصلاح مارتن لوثر يحظى برواج الشعوب الانجلو سكسونية للخروج من هيمنة ثقافية لاتينية رغم تفسخها السياسي.
لكن تلك الارهاصات تدعمها تطلعات زعامات سياسية بتحالف وثيق مع زعامات دينية، حين كانت السياسة لا تنفصل عن الدين، وكان الانفصال الديني اساس الانفصال السياسي، كما ان الاختلافات في الجذور الثقافية والتصورات العرقية، او التميز، التصق بنجاح تلك الحركات، اضافة لقهر سياسي شملته هيمنة مركز ديني او سياسي امتد للشعوب، على الاقل، كانت الالهات تتصارع في السماء، بما تمثله من اقوام وعقائد، وبرموزها المصورة في تماثيل، لكن في ظل التوحيد اصبح الامر نتاج مخيلة تتصور بشر من انبياء ورجال دين، بينما كانت نتاج مخيلة صورية.
لكن الحقيقة المرة؛ ان يد الرب لا علاقة لها بما تسفكه يد البشر، الحياة في الارض تتفق مع قواعد يمكن تنظيمها بالتجريب والاصلاح المستمر مع تغير الظروف وتعقد الحياة، اما السماء فتضعنا امام اللانهائية لنطلق تساؤلاتنا، وماهية الرب الغامضة لا تستدعي منا الايمان بدفن مجموعة بشر لاختلاف قناعاتهم، او لأنهم لا يؤمنون بما نعتقده.
تكمن اهمية الاسلام بثورته الروحية التي ساهمت بفتوة حضارية وقتها، وحتى لا يصبح في محك العزلة والتقوقع يحتاج العرب لفصل يقينهم بالماضي والغيبيات عن ضرورات الحياة المجربة، فالعرب اول من ارسى التجريب كقاعدة علمية وفلسفية، وان افتقروا لنظرة الاغريق الشمولية عبر التركيز على الجزئيات، لديهم فرصة للتخلص من تلك الآفة العلمية والفكرية.
ولا علاقة لتلك الآفة، كما يروج لها، بقدر جيني، بل بثقافة دينية عميقة الغضب منذ فجر التاريخ، مرتبطة بتابوهات دينية، ثم لانها تابوهات ساهمت في انقطاع متواصل (قطيعة مع العقل) لحضارة كانت في مرحلة استيعاب وهضم، سرعان ما انكفأ تنويرها بنشاط رجال الدين، ثم لذلك المزيج الرواقي والصوفي الذي خلط الفلسفة ببدع دينية كنمط قروسطي. اي توظيف الفلسفة في مسرح المبارزات المذهبية، والتبشير من خلاله، ارتباط اخوان الصفا ومنطقهم بالاسماعيلية مثلا، رغم انه ليس مبرر كاف، لكن تحريم الفلسفة اخذ منحى جدي في ذرة تمدد الاسماعيلية سياسيا ومثلتها الدولة الفاطمية، ثم ما شكلته خطرا على الدولة السلجوقية الدولة ذات التمثيل السني. الا انها ذات مغاز سياسية، بمعنى ان لا اصل في صحة تحريم الفلسفة دينيا او العلم الا ما تجره اهواء زعامات سياسية ودينية.
حتى نشوء العقلانية عند المعتزلة ارتدى ثوب ديني مارس التنكيل بصحبة الخليفة المأمون، بينما انتصرت عقلانية سقراط، مع الفارق الهائل، حين شربت السم من اجل العقل.
لذا تحضرت اروبا عندما وضعت قطيعة مع فلسفة قروسطية زاوجت بين ارسطو والمسيحية عبر اوغسطين وتوما الاكويني، بينما لم يسمح لابن رشد من تعزيز فلسفة ارسطو ليصبح تجاوزها غير مرغم لمجابهة الاكيلروس.
هناك تزاوجت فلسفة ارسطو بالكاثوليكية، مركز المسيحية الغربية، لتكون مقولاته حتمية، بينما تزاوجت نتف وشذرات من افلوطين وارسطو وابيقور والرواقية في توظيفه جدلا هدد مركز السنية العربية. ففي الاولى تم تحريم معارضة ارسطو، وهذا يعني جمود، بينما حرمت الاخرى الفلسفة ما يعني اجتثاث.
وحتى لا يصبح العرب عرضة للدمار بنفس السلاح الذي اقام بنيتهم الحضارية؛ بحاجة لاستعادة المناورة مع الفلسفة والعلم دون محاذير، وبحرية لا تضمر العاب المنطق في حذلقات تصبح غاية.
*المقال خاص بالموقع بوست.