كان هناك حقد دفين يسكن قلوب الكثيرين ليس على الميري وحامليه فحسب؛ بل على الرمزية التي يحملها ويعبر عنها، ومكانته في قلوب الأحرار كقيمة السلام الجمهوري والعلم الوطني الذي لا ينكس إلا مع انتكاسة الوطن، ويتسامى في سماه في أوقات عزته وشموخه، وشرف لكل من يؤمن بمبادئ ثورة السادس والعشرين من سبتمبر وأهدافها، ويدين للدماء التي أريقت، والنفوس التي تم التضحية بها في سبيل تحرير الوطن من ربقة العبودية والذل؛ بالولاء والطاعة والاحترام.
للبذلة العسكرية "الميري" قداسة كقداسة الأرواح التي صعدت إلى السماء وهي ترتديه، وتركت رفاتها متزينة به، وتميزه عن أجساد ماتت على الأسرة الفارهة، والأزقة وأرصفة الشوارع والفنادق التي يدوي فيها اللهو ويعربد فيها المجون، إنه تعبير عن الوطن وتربته الغالية سهوله ووديانه وجباله الشامخات، عن أصحاب الوطن والأرض والعرض، والسواعد التي شيدت حضارته، وبنت قلاعه وحملت السيوف في الفتوحات الإسلامية، والبنادق في كل المعارك الوطنية؛ دفاعاً عن الإنسان اليمني وكرامته، ومستقبل أبنائه الذين طالت بهم المأساة واقترن بهم العذاب.
كان ولا زال علي صالح تاريخ مثقل من الإهانة للإنسان اليمني وثوراته وعلَمِهُ الجمهوري، وكل ماله صلة بعزه وفخره وإبائه، علي صالح ارتدى الميري منذ الصبا وكان المجمِّل لصورته الشاحبة وجسمه النحيل، كان بديلاً عن ملابسه الرثة التي جاء بها من ريفه الفقير، كسى جسمه من العُري، وأدفاه من البرد، ورقّع قدميه من الحفا، ووقاه من حر الشموس وغبار الزمان، وسمّاه علي صالح ولم يعرف بين الناس إلا به.
التحق صالح بالخدمة وهو صغير السن بمساعدة شقيقه الأكبر محمد عبدالله صالح، الأب الروحي لأصحاب النظارات السود من معاونيه والعابثين بالميري اليوم، وكل ماله صلة به وبرمزيته، دفع كبارهم الفقر للالتحاق بصفوف الأمن والجيش، ولم تدفعهم مبادئ الثورة وحب الوطن والذود عن حياضه ومجده والحفاظ على تاريخه وحدوده براً وبحراً، وثرواته على ظهره وفي أعماق جوفه، ثم دفعت السلطة بصغارهم إلى أعلى المناصب اختطاف للنظام الجمهوي وتوريثه، والسيطرة على ثروات الأمة والاستئثار بها، ولو كانوا حملوه بحقه لاستحقوه.
ثم امتدت أياديهم إلى كل شيء، الأراضي والعقارات، واحتكار لوكالات الحج والعمرة وشركات السفريات والسياحة وحتى التكاسي والمناقصات المتعلقة بالجيش وكل مؤسسات الدولة، ولم يتركوا شيئاً الا استحلوه استغلالاً للسلطة وبدون أي عائد للشعب، ونالوا كل ما أشبعهم مادياً من الثروات، ومعنوياً مناصب وسيادة؛ عن طريق الميري ورتبه ونياشينه التي عُلِقَتْ على صدورهم، والطير الجمهوري الذي طُبع على "البريه، والكاب" العسكري معتلياً رؤوسهم، إلا أنهم وفي نهاية المطاف خانوه وأهانوه وسلموه لأعداء الثورة والعسكرية والوطن تاريخاً أرضاً وإنسانا، والذين قسَّموا نساء اليمن إلى فئتين، شريفات "فرست كلاس"، وإلى زينبيات "سيكند كلاس" وهن حرائر اليمن، عارٌ وشنار على الكل، من حد السعيم إلى آخر فلاح يمني.
كشفت الحلقة التي أخرجها محمد الربع في برنامج "عاكس خط" عن مكنونات كثيرة في نفسه، وذاكرة غيرة؛ أثارت الحزن والأسى عند كل من لهم صلة با لميري وبالحرية والإباء؛ لأن البذلة العسكرية ليست مجرد قطعة قماش يرتديها من شاء أينما أراد، وإنما هي الشرف العسكري والنظام الجمهوري، إنها البطولة والفداء والرباط في مواقع الدفاع عن الوطن والنظام والدولة بأسرها، ولا يرتديها إلا من نذر نفسه خدمة للوطن عشقاً وفداءً له.
قال أحد ضباط المرور لأحد الميليشيات عندما أهانه عيب عليك يابو...أنا ميري؛ لأنه يدرك هو وغيره أهمية وعظمة احترام الميري، وأهمية المحافظة على هيبته ومكانته في نفسه وعند الآخرين. "عيب عليك أنا ميري" عبارة طارت كالنار في الهشيم في كل ربوع الوطن؛ وأحدثت قهراً عميقاً عند كل الأحرار، وقهقةً عالية وراحة مفرطة عند المتخلفين الحاقدين الأشرار.
أذكر دوماً طلاب الكليات العسكرية وهم يلبسون بذلاتهم العسكرية المهيبة وأنا منهم أثناء خروجهم لقضاء العطل الرسمية، منتظمي الخطى في الشوارع رافعي الرؤوس تحلّق بهم الحماسة في السماء، ويطير بهم الفخر فوق السحاب، وكان ذلك المنظر الساحر دافعاً كبيراً لكثير من الشباب للالتحاق بالكليات العسكرية، ونيل شرف ارتداء الميري، والالتحاق بركب القوات المسلحة والأمن، وما إن يتخرج من كليته العسكرية حاملاً نجمةً على كتفه؛ حتى يشعر أنه السيد الحامل للوطن كله على كتفه، والمحب له من أعماق الفؤاد دون سواه.
أشار علي صالح إلى تخلف ورجعية بعض الأنظمة المجاورة، في حين أنها بالغت في احترام كل ما له صلة بالنظام والدولة علماً وشعارات وميري، وتوجته بسن القوانين الصارمة؛ عقوبة لكل من تسول له نفسه المساس بالبذلة العسكرية "الميري"، بسجن ستة أشهر وغرامة خمسة ألف ريال سعودي احتراماً لمن يرتديه، وحفاظاً على هيبة الدولة ملوكها ومؤسساتها وكل منتسبيها؛ لأنها أدركت أنه إذا سقط شرف الميري سقطت هيبة الدولة وشرفها.
الأمر الذي لم يدركه صالح، ونكث بكل مواثيق الشرف والعهود التي قطعها على نفسه في كل منصبٍ تولاه أنه سيحافظ على النظام الجمهوري وحرية شعبه، وسيادة أراضيه ووحدة شعبه؛ عهود تدخل صاحبها القبر تغمس روحه في الدرك الأسفل من النار ويدون اسمه على هامش التاريخ.