لم يعد يوجد في المشهد السياسي اليمني سوى السلاح، والحشود الشعبية مفتقدة لكل أشكال التنظيم والعمل السياسي. منذ عام 2011، صارت الحشود الوسيلة الفضلى لجميع الأطراف اليمنية، في سلطة وفي معارضة.
منذ عام 2006، شهدت اليمن مظاهرات عديدة. وتشكلت ظاهرة شعبية واسعة في الجنوب منذ عام 2007، في ما صار يعرف الحراك الجنوبي. شيء مماثل شهدته صنعاء، وإن كان بصورة أقل. وكانت مطالب الحراك الجنوبي واضحةً من مطالب سياسية تعارض عملية التهميش والضيم التي تعرّض لها الجنوبيون منذ حرب 1994، وتدعو إلى استعادة الدولة الجنوبية التي توحدت مع الشمال عام 1990. وكانت طبيعة المطالب الجماهيرية في صنعاء أقل راديكالية، وكانت ضمن حراك منظمات مجتمع مدني وطلاب ضد فساد الحكم وفرديته.
من هذا الحراك الشعبي الواسع، جاءت ثورة 2011 ضمن حراكٍ شعبي إقليمي، وكان الحراك لا يمثل غالبية المجتمع، لكنه يمثل جميع فئاته وانقساماته، كذلك كانت لديه مطالب واضحة ومعروفة للجميع.
الحراك في 2011 وقبله كان نتيجةً طبيعةً لاحتكار الحكم ضمن فئةٍ معينةٍ احتكرت العمل في المجال العام، وكان عملياً محاولةً لكسر هذا الاحتكار لصالح الشعب. أما بعده فقد أخذ شكلاً جديداً، حيث انفتح المجال العام لكل الأطراف، بشكل أو بآخر، لكنه صار يعبر عن حالة غياب السياسة، وزيادة الاستقطاب الاجتماعي، ضمن حالة تكريس فكرة القائد الشعبوي والزعيم الأوحد.
على الرغم من انفتاح المجال السياسي العام للحراك الجنوبي بعد عام 2011، فإن نشاط الحراك لم يستطع أن يتقدّم خطوة واحدة عن المعتاد والتقليدي، وهو الحشد في حالة تنافس قيادي محموم. كذلك لجأ الحوثي إلى فكرة الحشود ضمن مطالب كانت تبدو شعبيةً، ومن حق أي جماعة.
تختلف مشكلة الحوثي عن الحراك، فبينما كانت الحشود بالنسبة للحراك تتواصل مع نضاله السلمي، من دون تطوير لأدواته السياسية، بعد تغير المرحلة، أخذت حشود الحوثي، منذ البداية، ملمح التحشيد العسكري، ولو مبطناً. وكان واضحاً أن مطالب الحركة الشعبوية تختلف كلياً عن مطالبها السياسية على طاولة التفاوض، وهي مطالب، منذ البداية، بلا سقف واضح لحركة تحرّكها مفاهيم عقائدية جامدة، لا تجاهر بها. آخر الراكبين لحركة الحشود هو الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي فاجأ الجميع بحشوده، ما دفع بعضهم إلى التشكيك في الثورة، وكأنها مجرّد حدث احتشادي.
في كل الحشود أخيرا، كانت المطالب مشروعةً، فمن يخالف الحوثي إن كان أداء الحكومة فاسداً وضعيفاً؟ وبالتأكيد دعوة صالح إلى وقف الحرب السعودية في اليمن سوف تجد صدى واسعا، وهي دعوة مشروعة أيضاً. أما الحراك فتظل قضيته قائمة حتى الوصول إلى صيغة سياسية جديدة للدولة، انفصالاً أو فدرالية. لكن، هل هذه الحشود أداة ضغط لدى جهةٍ معينةٍ لتحقيق المطالب مثلا؟ ما قيمة الحشود في حالة الحوثي الذي ارتكز، في نهاية الأمر، على السلاح، واتجه نحو مسارٍ مخالفٍ كلياً لمطالبه، وما أهمية الحشود في حالة صالح سوى استعراض شعبيته قائداً محبوباً، لكنها بالتأكيد لن تنهي قتالاً إلا بانتهاء الأسباب الموضوعية للحرب لدى الطرفين؟ وما ضرورة الحشود في حالة الحراك، بعد أن صارت القضية الجنوبية معترفاً بها داخل اليمن، وإقليمياً ودولياً، ولا أحد يشكّك في مصداقيتها وشعبيتها؟
لم تعد الحشود في اليمن سوى داع للزعامة أو الاستقطاب، فبعد 2011، كان هناك حراك سياسي مفتوح للكل، ومؤتمر حوار وطني دعي إليه الجميع، بغض النظر عن مسار المؤتمر المختل، لكن الفكرة أنه لم يكن هناك طرف مقصي مضطر للجوء إلى الشارع للتحدّي، أو لفرض وجوده، أو للضغط على سلطة متعنتة.
وبعد 2015، صار الكل مسلحاً لأسباب مختلفة، وبغض النظر عن حقيقة من هو المدافع والمهاجم، تظل الحقيقة الأهم أن السلاح فرض واقعه المختلف، وأدواته السياسية المختلفة، فإذا كان لدى كلٍّ من الحوثي وصالح تنظيم وقيادة، فالطرف الآخر مطالبٌ بتنظيم نفسه، ووجود قياداتٍ ليس بمنطق الزعيم الأوحد، لكن بمنطق ضرورة وجود رأس منظم.
وظلت الجماعات الدينية هي الأقدر حتى الآن في تنظيم نفسها وإيجاد قياداتٍ لها، بينما تلاشي دور الأحزاب، أما الحراك، وهو طيف متنوع وواسع، وهذا يحسب له، فظل غارقاً في مشكلته، وهي تعدّد القيادات المتصارعة على خلفيات مناطقية وثأرية قديمة.
وقد شهدت الساحة الجنوبية، قبل أيام، حشدين متتالين، أحدهما دعا إليه محافظ عدن المقال، عيدروس الزبيدي وأعلن فيه ما سمي بيان عدن التاريخي، وأبرز ما في البيان تفويض لتشكيل كيان سياسيٍّ يمثل الجنوب. كما أن البيان يحمل تناقضات كثيرة، فهو يرفض قراراً صادراً من رئيس جمهورية، وهذا يعني، بشكل ما، تمسكهم بقرار رئيس الجمهورية السابق، وهو تعيين الزبيدي محافظاً للمدينة، ويظل هذا أمراً هينا أمام الفكرة الأصعب، ذلك أن البيان يدّعي تمثيل الجنوبيين في مليونية، وهي عملياً مظاهرةٌ ضخمة. ولكن لا يمكن وصفها مليونية، ولا يمكن أن يصل المشاركون فيها إلى مائة ألف، كما أن الجنوب شهد مظاهرات أكثر حشداً. وقد افترض هذا البيان أنه من خلال الحشد، وبديلاً عن السياسة، قرّر، بالنيابة عن الجنوبيين بكل أطيافهم، توحيدهم ضمن كيان سياسي يقوده الزبيدي الذي وصف البيان تعيينه قائداً جنوبياً أوحد بكلمةٍ سيئة الصيت، وهي التفويض. وكل نماذج التفويض، وآخرها تفويض الحوثي في صنعاء، تحاول تكريس فكرة الزعيم الأوحد، وبمنطق تسليمٍ جماهيريٍّ، يفتقد أبسط مفاهيم الديمقراطية ومساءلة الشعب، بل تعد عملية تجريف للسياسة ضمن مفاهيم شعبوية صدامية.
كان الحشد يعبر عن حاجةٍ جنوبيةٍ ملحةٍ لتمثيله في كيان سياسي موحد، لكن إعلان كيانٍ كهذا يحتاج عملاً سياسياً يجمع المكونات السياسية والاجتماعية المختلفة للجنوب، تعي طبيعة أولويات الجنوب التي تغيرت جذرياً بعد ما صار الجنوب مسلحاً، ويخلو من أي فصيل مسلح، يتبع الشمال بشكل مباشر، سواء كان الشمال حكومة أو مليشيا، ويبتعد عن الخطاب الشعبوي التقليدي.
صحيح أن الزبيدي لا يمكن الاستهانة بدوره القيادي في نضالات الحراك، وكذلك دوره البطولي في مقاومة الحوثيين في محافظة الضالع، في حالة نموذجية لمقاومة الحوثي الناجحة، من دون أي دعمٍ خارجي، لكن هذا لا يعني تجاهل حقيقة وجود قيادات أخرى، لها أنصار، ولا يلغي حقيقة وجود حساسياتٍ مناطقيةٍ، يجب أن تؤخذ بالاعتبار، عند تشكيل كيان سياسي يعبر عن الجنوب.
لم يوفر الحشد الذي رفع إعلام الإمارات جهداً في مهاجمة حزب الإصلاح، وبتسميته الإقليمية غير المألوفة في اليمن، وهي الإخوان المسلمون، على الرغم من أنه فصيل سياسي موجود في الجنوب، ويصعب اختصاره في وصفه بأنه الحزب الشمالي. تلا ذلك حرق مقر الحزب في مدينة عدن، ما ينذر بخطورة الدفع بالخلافات السياسية نحو الخصومة، في ظل بيئة مسلحة ومنقسمة.
كان الحشد المقابل هو الذي ينتظر المحافظ الجديد، عبد العزيز المفلحي في مطار عدن، في تعبير آخر عن حالة الانقسام والاستقطاب التي تشهدها الساحة الجنوبية، وهي ساحةٌ لا ينقصها السلاح، ولا تحتاج حشوداً، بل تفتقد السياسة بمعناها المنظم والمعبر عن مصالح الناس، وأولوياتهم المتغيرة، وليس تعبيراً فقط عن الخصومة والصدام، وتطلعات لعب دور الزعامة المنفردة.
* العربي الجديد