يمكن ربط وثيقة حركة المقاومة الإسلامية «حماس» الجديدة بالتغيّرات الكبيرة التي جرت في المنطقة العربية على مدار السنوات الماضية وتأثيراتها على الساحة الفلسطينية، كما بالتحدّيات الهائلة التي تواجهها الحركة داخل إطار الجغرافيا الفلسطينية وخارجها، وخصوصاً فيما يخص النظام المصري الذي يخوض حرباً مفتوحة لا أحد يعرف منتهاها مع جماعة «الإخوان المسلمين»، والحركة الفلسطينية المناظرة «فتح» التي يستعد رئيسها محمود عباس لزيارة واشنطن غداً للقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
تل أبيب، لم تر في هذا التغيّر غير «محاولة لخداع العالم» لأن عناصر «حماس الحقيقية يبنون أنفاقاً للإرهاب وأطلقوا آلاف الصواريخ على مدنيين إسرائيليين» وهو موقف اعتياديّ ومتوقّع من حكومة الاحتلال الإسرائيلي وخصوصاً في ظل الحديث السنويّ عن إمكان شنّ جيشها حرباً جديدة على قطاع غزة خلال الصيف المقبل.
بالنسبة لتل أبيب التي يعرفها الفلسطينيون حقّ المعرفة فإن على «حماس» وقطاع غزة الذي تحكمه أن يتوقفا عن الوجود وأن يختفيا من خارطة العالم لأن وجود الفلسطينيين، سواء حكمتهم «حماس» من غزة أو منظمة التحرير الفلسطينية من رام الله، هو المشكلة الفعلية لإسرائيل، ولأن دفاع الفلسطينيين عن وجودهم المحاصر، أكان بحفر الأنفاق والدفاع عن أرضهم وكياناتهم السياسية، كما تفعل «حماس»، أو بالمعارك الدبلوماسية والاتفاقات السياسية والتفاوض واللجوء إلى المؤسسات الدولية الخ…، كما تفعل «فتح»، لا يجعلان هذا الشعب الفلسطيني يختفي ومن دون أمل بتطويع إرادته السياسية على اختلاف «الاجتهادات» فيها.
«حماس»، في الحقيقة، كما أي كيان سياسيّ، تستجيب للتطوّرات وتتفاعل مع التحدّيات، ووثيقتها الجديدة هي إعلان عن هذا التغيّر للفلسطينيين أوّلاً، حيث تريد كشف تطورها واختلافها عن تيّارات سلفيّة متطرّفة تحاول تحدّيها سياسياً وفكريّاً، وهو أمر يجري على امتداد المنطقة العربية، كما أنها تريد إعلان خصوصيّة نضالها ومصاعبه الجمّة.
يبدأ الأمر من كون حماس تجمع بين «المعارضة» للخط السياسي الفلسطيني الرسميّ الذي تقوده السلطة الوطنية، و«الحكم» الذي تقوم عمليّاً بالإمساك بمقاليده في قطاع غزة منذ عام 2007، وهو ما يجعلها، من جهة لا تنسى ارتباطها القديم بكبرى فصائل الإسلام السياسي «الإخوان المسلمين»، التي تتعرّض لعمليّة إبادة سياسية في مصر، الجارة الكبرى والمنفذ الوحيد لغزّة إلى العالم، ومن جهة أخرى فإنها ملزمة كحكومة بتدبير شؤون مواطنيها والتعامل مع الحكومات والكيانات العالمية بالطرق الرسمية المتعارف عليها والقوانين الدولية ومهمتها، بالتالي، تتعدى مسألة الدفاع عن حدودها وكيانها وشعبها ضد العدوانية الإسرائيلية. الإشارات الكبرى الصاعدة من الأرض الفلسطينية، معطوفة على التحوّلات العالمية والعربية هي إذن الأسباب العميقة التي تدفع «حماس» لإجراء تغييرات فكرية سياسية وهذه هي الطريقة الوحيدة، على ما يبدو، لمجابهة التحدّيات الكثيرة المعقّدة التي تواجهها.
إسرائيل لا تريد أن تغيّر المواضعات التي اعتادت عليها من توصيف «حماس» بالإرهاب لتبرير همجيتها المستمرة على الشعب الفلسطيني، وهذه الخطوة من «حماس» هي محاولة لتغيير هذه المعادلة.
«حماس»، بهذا المعنى، لا تريد خداع العالم، ولكن هل يستمر العالم بخداع نفسه؟