لا توجد ضمانة على الاستقرار في بلد هش مثل اليمن، في ظل التحديات الهائلة التي تنتصب أمامه في هذه المرحلة، ربما تكون مهمة تحرير المحافظات والمدن تحدياً من النوع الذي يمكن إنجازه بالاصطفاف الوطني لكن ثمة تحديات خطيرة جداً تهدد طبيعة الاصطفاف ذاتها.
هل لنا أن نتجاوز ما جرى ليل الجمعة ويوم السبت في مدينة عدن، "العاصمة السياسية المؤقتة" التي يتواجد فيها الرئيس الانتقالي وحكومته؟. في الحقيقة سيكون من الخطأ الفادح تجاوز هذا الحدث الذي أعاد أجواء الحرب والرعب من جديد، ونكأ الجراح وأبقى على حدود التقسيم المناطقي ذاتها للتوتر في الجنوب.
والسبب أن التحالف العربي يعمل جاهداً على إبقاء خطوط الانقسام هذه، ولا أدري لماذا يعتمد هذه المنهجية السيئة في إدارة المناطق المحررة في الجنوب، بينما تكمن الوصفة السحرية للاستقرار في تكريس منطق الدولة وأدواتها وفرض سيادة القانون على الجميع.
يحدث اليوم أن التحالف العربي أعاد فرض أسلوب "الإقطاع" فهو يوكل مهام فرض الأمن على لواء الحزم، الذي لا توجد هوية واضح له حتى الآن، كما أن هذا اللواء المتخم بالإمكانيات لا يحضر أبدا في مهام تتعلق بتأكيد سلطة الدولة والقانون.
ويتعمد التحالف العربي ترك الصلاحيات الأمنية والعسكرية عائمة في عدن إلى حد أن الحكومة تصدر بياناً تطالب فيه بأن تنتقل مهمة الإشراف على الأمن من الجيش إلى القوات الأمنية، وهي قضايا من صلب صلاحياتها، لولا أن هناك قوة أكثر شأن منها، تحضر في عدن وهذا أمر طبيعي بالنظر إلى الأهمية الكبيرة للتحالف ولدوره في هذه المرحلة.
كنا نتساءل لماذا لم تتواصل عملية التحرير لتبلغ أهدافها وغاياتها النهائية في محافظة تعز ومن بعدها محافظتا إب والحديدة، لكن كل شيء كان يدل على أن العمليات العسكرية تتحرك بمحاذات الحدود السابقة التي كانت تفصل بين شطري اليمن الشمالي والجنوبي.
حينما تجاوزت قوات التحالف ومعها مجاميع من المقاومة الجنوبية تلك الحدود في منطقة باب المندب الاستراتيجية، ووصلت إلى المناطق التي وصلتها اليوم بعد معارك ضارية وخسائر بشرية، انسحبت، قرر حينها مغادرة تلك المناطق لا لشيء إلا لأنها شمالية ولأن المخطط كان يقضي بالسير بمحاذات الحدود الشطرية وعدم تجاوزها.
ذلك كان هو المظهر الأكثر قبحاً لاستهداف الاصطفاف الوطني والصيغة الوحدوية التي يسعى إلى تكريسها الرئيس هادي، وفقاً لخطابه المعلن على الأقل.
المواجهات المسلحة التي شهدتها عدن، كانت بين الشرطة ومجاميع مسلحة، وبالطبع لا أحد يؤيد بأي حال من الأحوال الجماعات المسلحة المنفلتة، إذ يظل للشرطة التي تمثل القانون وتحرسه أولوياتها، لكن لا أحد أيضاً يستطيع أن يتجاوز الحقائق التي نراها اليوم، في شكل تموضعات مناطقية في هياكل السلطة التي تتشكل في عدن.
في السابق استغل المخلوع صالح هذه التموضعات الجهوية في الجنوب واستثمرها في مخططه لتكريس السلطة الجهوية لشمال الشمال، والتي كان يكمن داخلها مشروعه الخاص لتكريس سلطته العائلية الضيقة جداً.
الانقسامات الجنوبية التي تختفي خلف المظاهر الزائفة للتصالح والتسامح ما تزال قائمة بدليل ما جرى في عدن بالأمس، ولهذا كان من السهل على المخلوع صالح أن يوظفها في أحدث جولة صراع يخوضها بالتحالف مع القوة الشيعية المتطرفة الموالية لطهران (الحوثيين)، من أجل استعادة السلطة وهي الحرب التي ما زالت رحاها تدور حتى اللحظة في أكثر من جبهة ومحافظة.
يتقدم الجيش الوطني في أكثر من جبهة، لكنني مؤمن إيماناً يقينياً بأن ثمة من ينخر هذه الإنجازات عبر التكريس المتعمد للاصطفافات التفكيكية، الجهوية والطائفية التي إن استمر دعمها فسوف تنسف كل هذه الإنجازات التي تتحقق.
بل إنها ستتحول إلى وبال حقيقي على اليمنيين لا سمح الله، وعلينا أن نأخذ مما حصل في عدن درساً بشأن التحدي الحقيقي الذي يتعين مواجهته الآن وفي المستقبل، وهي مهمة تتعلق بالحكومة الشرعية في المقام الأول وبالقوى السياسية التي تخوض معها معركة استعادة الدولة، وإلا فإن ولد الشيخ لا يزال مصراً على فرض تصوره الخاص بالحل الذي يفضي إلى إعادة السلطة إلى تحالف صالح الجهوي.
*عن عربي21