علمتنا مصر العروبة طوال سنين الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي مفهوم الوطن والمواطنة، علمتنا مفاهيم الحرية السياسية، علمتنا أن الشركات العالمية استبدت بثرواتنا البترولية والمعادن الأخرى، وممراتنا المائية السويس، باب المندب، مضيق هرمز، خليج العقبة وجبل طارق.
مصر العروبة استردت قناة السويس من يد الشركة العالمية للقناة، وأصبحت ملك شعب مصر، ومن وارداتها بني السد العالي، والإصلاح الزراعي، ومصانع حلوان، ومجانية التعليم. وفي الخليج العربي استعادت الدول العربية المنتجة للنفط والغاز سيادتها على مواردها النفطية.
(2)
كان الفكر السياسي والاقتصادي والثقافي في تلك الحقبة من الزمن في أوج عظمته، قد نختلف في تصنيف الفكر في أي من تلك الحقول وقد نختلف في أهداف كتاب فكر ذلك الزمان إلا أنه لا يجب أن نختلف على أن مصر كانت قبلة المثقفين العرب والأفارقة، ومن أمريكا الجنوبية.
كانت مصر مهد حركات التحرر الوطني من الاستعمار، استطاعت مصر العروبة المساهمة مالا وإعلاما وتمويلا في تحرير جنوب الجزيرة العربية من الاستعمار البريطاني الذي بقي في هذه المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وخرج مهزوما عام 1967، وأسهمت أيضا في انتصار الثورة الجزائرية وهزم الاستعمار الفرنسي بعد أكثر من 120 عاما كان جزاء الأولى حرب 1967 والهزيمة التي منيت بها الدول العربية المشرقية، وللهزيمة / النكسة أسباب وأسباب ولست في مجال سردها، وكان جزاء الثانية العدوان الثلاثي على مصر (إسرائيل، فرنسا، بريطانيا).
وانهزم العدوان الثلاثي لأن مصر العزيزة ناصرها العرب كلهم في ذلك الزمان ولأن في مصر حكما وطنيا استقطب الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج لصالح مصر. كانت مصر العروبة تعج برجال الفكر والفن والآداب أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر محمود أمين العالم ولطفي الخولي وعصمت سيف الدولة ومحمد حسنين هيكل والعقاد وطه حسين وغيرهم، ولم يبق في الصحافة المصرية من يشار إليه بالبنان سوى الأستاذ فهمي هويدي وجميل مطر، وفي الفن محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش، وفي القوات المسلحة الشاذلي وعبد المنعم رياض ومحمد فوزي هذه الأسماء فقط كنموذج وليس حصرا كما ذكرت فمصر فيها رجال أعطوا وبنوا ورحم الله تلك الأجيال.
كان جمال عبد الناصر رحمه الله زعيم مصر أولا وزعيما عربيا يشار إليه بالبنان، كان إذا دعا إلى مؤتمر قمة عربية أو إسلامية يتدافع الزعماء العرب نحو القاهرة استجابة لدعوته، وإذا ألمت نازلة سياسية بدولة عربية أو إفريقية فسرعان ما يمد يده لاحتواء تلك النازلة أذكر منها قضية لبنان عام 1958، واليمن عام 1962، والأردن عام 1979، والكونغو 1961.
(3)
فما حال مصر اليوم؟ إنها في حال لا تحسد عليها، غرق في الديون، تضخم اقتصادي جامح، واضطراب إداري لا سابقة له في تاريخ مصر، قضاء لا يتسم بالاستقلالية، وتحوم حوله الشبهات.
مصر الجنرال السيسي رئيس مصر في خلاف مع الذين مدوا أيديهم بالدعم المالي والسياسي والإعلامي، أعني الدول الخليجية العربية، وثبتوا حكم العسكر في القاهرة. مصر السيسي ليست على وفاق مع تركيا، القوة الأولى في المنطقة عسكريا بعد إسرائيل، وأقوى اقتصاديا من مصر. الكل يعلم أن القرار السياسي في الشرق الأوسط اليوم ينطلق من الخليج العربي ومركزه المملكة العربية السعودية، لكن الجنرال السيسي لم يدرك بعد أنه لا يستطيع السير بمصر العزيزة وعواصم الخليج ليست على وفاق معه.
مصر السيسي، لم تناصر قوى التحالف العربي في مواجهة الانقلابيين في اليمن، الذين استولوا على السلطة بقوة السلاح، ونهبوا محتويات البنك المركزي وأسلحة معسكرات الجيش اليمني، وهو يعلم أن أمن مصر من أمن البحر الأحمر، التي تملك السعودية أطول شواطئ ذلك البحر، لم يقف السيسي مع الدول الخليجية لمناصرة الشعب السوري العظيم الذي بلي بنظام ظالم حاقد استعان على قهر الشعب السوري بكل عصابات الحقد من إيران وباكستان وأفغانستان والعراق ولبنان، وكذلك مرتزقة من روسيا النظام السوري قتل أكثر من 600 ألف إنسان من الشعب وشرد أكثر من 8 ملايين إلى خارج الحدود إلى جانب الاستعانة بقوات إيرانية وروسية لإخماد الشعب السوري.
من المحزن أن تقف مصر مع هكذا حكومة في دمشق.
(4)
كان إعلام مصر العروبة مؤثرا في حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، أما إعلام مصر السيسي اليوم فقد نزل إلى الدرك الأسفل من السطحية واللا أخلاق. يروي الأستاذ فهمي هويدي أن "الصحف القومية المصرية التزمت الصمت حين زار وزير خارجية مصر تل أبيب في خطوة مفاجئة لم نشهد لها مثيلا منذ تسع سنوات، وفي الوقت نفسه تعالت أصوات البعض منددة بالدعوة التركية لمد الجسور مع مصر ورافعة شعار "لا تصالح" وعند هؤلاء فإن التطبيع مع إسرائيل قفز فوق بحور الدم العربي صار حلالا مباحا، أما التطبيع مع الأشقاء فهو أمر مكروه".
عندي أمثلة واقتباسات تثبت قولي عن الإعلام والسلوك السياسي الذي انحدر بمصر العزيزة إلى الدرك الأسفل، لكن المساحة في الصحيفة محدودة بعدد من الكلمات، وعلي أن ألتزم.
آخر القول: رحم الله مصر العروبة، وأعان شعبها العظيم على تحمّل حقبة عبد الفتاح السيسي وإعلامه الهزيل وسياسة خارجية مضطربة، وتأكدوا بأن لكل باغ نهاية.